للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الثالثة.

المشهور عندنا قَبول شهادة القاذف قبْل الجَلْد وإن كان القذف كبيرة باتفاق، وقال به أبو حنيفة، وردَّها عبد الملك ومطرِّف والشافعي وابن حنبل رضي الله عنهم.

لنَا أنه قبل الجَلْد غيرُ فاسق، لأنه ما لم يُفْرَغْ من جَلْده يجوز رجوع البيِّنة، أو تصديقُ المقذوف له، فلا يتحَقق الفِسقُ، إلّا بعْدَ الجَلْد. والأصل استصحاب العدالة، إذ هي الحالة السابقة.

احتجوا بوجوهٍ:

الأول، أن الآية اقتضت ترتيب الفسق على القذف، وقد يتحقق القذف فيتحقق الفسق بتحققه، سواءٌ جُلِد أوْ لا.

الثاني، أن الجَلْدَ فرع ثبوت الفسق، فلو قلنا: الفسق يتوقف على الجلد لَزِمَ الدَّوْر. (٦٢)

الثالث، أن الأصل عدم قبول الشهادة إلا حيث تيقَّنَّا العدالة، ولم تُتَيقن، فَتُرَدُّ.

والجواب أن الآية اقتضت صحة ما ذكرنا لا ما ذكرتم، لأن الله تعالى قال: " {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (٦٢ م) فرَتَّب الشهادة والقَبول على الجلد.

قلت: هذا بعيد، وليس في الآية ما يدل عليه، بل رتب الجَلْد وعدمَ قبول الشهادة، والفسقَ على القذف، فانه قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ}، كذا كذا، وهذا لا خفاءَ به.


(٦٢) الدَّور بفتح الدال أن يكون الشيء متقدما ومتأخرا في نفس الوقت، بحيث يتوقف على ما قبله ويتوقف ما قبله عليه، وهو محال، كان يتوقف الفسق على الجَلدِ، ويتوقف الجَلْد على الفسق مثلا، وهو من المستحيلات العقلية، مثل التسلسل إلى ما نهاية له، كما يذكره علماء التوحيد والمنطق في الأدلة النظرية والمنطقية.
(٦٢ م) أولها: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ... }، سورة النور، الآية ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>