للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحجة السادسة، النكول والشاهد حجة عندنا، خلافا للشافعي.

لنا أن النكول سبب مُؤثّرٌ في الحكم يُحْكَم به صح الشاهد، وتاثيره أن يكون المدعَى عليه ينقل اليمين للمدَّعي. (١٠٦)

احتجُّوا بوجُوهٍ:

الأول, أن السنة إنما وردت بالشاهد واليمين، وهو تعظيم الله تعالى، والنكوُل لا تعظيم فيه.

وثانيها, أن الحِنثَ فيه يوجبُ الكفارة، ويَدَعُ الديار بَلَاقِعَ (١٠٧) إذا أقْدَمَ عليها غَمُوساً، وليس كذلك النكوُل.


(١٠٦) قال القرافي: الوجه الثاني أن الشاهد أقوى من يمين المدعي، بدليل أنه يرجع لليمين عند عدم الشاهد.
الوجه الثالث أن الشاهد يدخل في الحقوق كلها، بخلاف اليمين.
(١٠٧) بلاقع: جمع بلْقع وبَلْقَعة، وهي الدار الخرِبَةُ والبقعة المقفرة من مكان خال. وقد وردت هذه الكلمة في البيْتِ الثالث من قصيدة شهيرة لطيفة للشاعر الاسلامي المخضرم لبيد بن ربيعة، يرثي فيها أخاه إربد، وضمنها عواطف انسانية، ومواساة لنفسه ومواعظ مؤثرة، ومما جاء فيها ويحسن ذكره وإيرادُه على سبيل الاستطراد للمناسبة والفائدة، والاستحضار والموعظة, قوله:
بَلِينا وما تَبْلَى النجومُ الطوالعُ، ... وتبقى الديارُ بعْدَنا والمصانع
وقدْ كنتُ في أكناف جارٍ مَضِنة، ... ففارقَنَا جارٌ يأربدَ نافع
وما الناسُ إلا كالديارِ وأهلِها، ... بها يوم خَلَّوْها وراحوا، بلاقِع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحورُ رماداً بعد اذ هوَ ساطع
وما المال والاهلون إلا ودائعٍ ... ولابُدَّ يوماً أن تُردَّ الودائع
وما الناسُ إلا عامِلان فَعامل ... يُثَبِّرُ ما بينِي وآخَرُ رافع
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ... ومنهم شقى، بالمعيشة قانِعُ
لعمرك ما تدْري الضواربُ بالحصى ... ولا زاجراتُ الطير ما الله صانع
وفي هذا البيت إثارة إلى ما جاء به الإسلام من النهي عن الكهانة، وعن الاعتماد في التفاؤل أو التشاؤم على زجر الطير وإطلاقِها لتذهب ذات اليمين أو ذات الشمال، ودَعَا إليه من وجُوب اعتقاد أن الغيب عِلمُه عند الله تعالى لا يعلمه ألا هو سبحانه، وأن التوكل يجب أن يكون عليه، وذلك من أثر الإسلام وفضله على المسلمين وهدايته في قلب هذا الشاعر ونفسه، ومن ثمرة ايمانه الذي كان يحمدُ الله عليه ويقول في البيت الوحيد الذي روى له بعد اسلامه:
الحمد لله إذ لم ياتنى أجَلى ... حتى اكتسَيتُ من الإسلام سرِبالا
وقيل: هو قوله:
"ما عاتب الحر الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح. =

<<  <  ج: ص:  >  >>