ثم قال: وقول القرافي "لابُدَّ من إنشاء الإخبار عن الواقعة المشهود بها): يا للعجب! ، وهل إنشاء الإِخبار إلا الإِخبار بعينيه، ثم قال: وقوله: "والإنشاء ليس بخبر إلى قوله، وقد تقدم الفرق بين البابين"، ومن هنا دخل الوهم عليه (اي على القرافي)، وهو أنه أطلق لفظ الانشاء على جميع الكلام، ومن جملته الخبرُ، وأطلق لفظ الانشاء على قسِيم الخبر، ثم تخيَّل أنه أطلقهما بمعنى واحد، فحكم بأن الانشاء لا يدخله التصديق والتكذيب. وما قاله من أنه لا يدخله ذلك صحيح في الانشاء الذي هو قسيم الخبر، وغير صحيح في الانشاء الذي هو إنشاء الخبر، وأن يكون وعداً بأنه يشهد عنده، لا أعلم ما الخبرُ؟ . وقوله: "فإذا قال الشاهد: أشهد عندك ايها القاضي كان إنشاء" قلت: وما المانع من أن يكون وعدا بأنه سيشهد عنده، لا أعلم له مانعا إلا التحكمَ بالفرق بين لفظ الخبر ولفظ الشهادة، وهذا كله تخليط فاحش. ثم قال ابن الشاط: معَقِّباً على قول القرافي: "ولو قال (الشاهد): شَهِدتُّ، لم يكن إنشاء، عكسه في البيع لو قال: أبيعك لم يكن إنشاء، إلى قوله: أنا شاهد عندك بكذا، أو أنا بائعك بكذا لم يكن انشاء): لقد كلَّف هذا الرجل نفسه شططا، وألزمها ما لم يلزمها، كيف وهو مالكي؟ ! ، والمالكية يجيزون العقود بغير لفظ أصلا، فضلا عن لفظ معيَّن، وإنما يحتاج إلى ذلك الشافعية حيث يشترطون معينات الالفاظ. (١٦٩) قال القرافي هنا قبل الكلام علي هذه المسائل: فتلخص لك أن الفرق بين هذه الالفاظ ناشئ عن القواعد وتابع لها، وأنه يتقلَّبُ وينتسخ بغيرها وانتقالها، فلا يبقى بعد ذلك خفاء في الفرق بين قاعدة ما يصح من تؤدّى به الشهادة، وقاعدة ما لا يصح أن تؤدى به، وفي الفرق أربع مسائل. قلت: وهذه الخلاصة التي جآءت هنا عند القرافي هي التي بدأ بها الشيخ البقوري كلامه هنا على هذا الفرق وهذه القاعدة. وقد عقب ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي فقال: ما قاله في ذلك مبني على مذهب الشافعي وهو صحيح، إلا قوله: أراد الشهادة بالانشاء لا بالخبر، فإنه قد تقدم أن الشهادة خبر، وهو الصحيح، وتقدم التنبيه على الموضع الذي دخل عليه منه الغلط والوهم، والله تعالى أعلم. وما قاله في المسائل الاربع صحيح أو نَقْلٌ لا كلام فيه. قلت: وقد رأيت أن أتتبع هذه التعاليق والتعقبيات على كلام الإِمام القرافي هنا عند الشيخ ابن الشاط، لأهمية موضوعها، ولما فيها من تحقيقات وتدقيقات يجدر بالفقيه أن يكون على بينة وبصيرة منها، وذلك بِغض النظر وصرفه عما يكون في هذه التعليقات احيانا من عبارات قاسية وقوية من ابن الشاط تجاه القرافي كما نبهت عليه مراراً الخ .. فَرَحِمَ الله الجميع، وأثابهم على حسن قصدهم وخدمتهم للعلوم الاسلامية وللدين والمسلمين.