والعُبَّادُ الذين فعلوا ذلك لا يخلو أن يكونوا ممّن تَعَوَّدَ خرق العادة له أو ممن لم يتعوَّدْ ذلك، فإن كانوا من القسم الأول فلا عَيْبَ عليهم، وإن كانوا من القسم الثاني فلا يخلو أن يكونوا ممن غلب عليهم في ذلك أحوال لا يستطيعون دفعها أو ممن لم يغلب عليهم أحوال كذلك، فإن كانوا من القسم الأول فلا عيبَ عليهم، لعدم استطاعتهم دفع ذلك، وإن كانوا من القسم الثاني يكونو مُرْتكِبِينَ لممنوع فَيَلْحَقُهُمْ العيب، فما بالُ أولئك العلماء حكموا عليهم بأنهم من هذا الأخير دون القسم الأول والثاني، ألَيس إساءةَ ظن في موطن يمكن فيهِ تحسينه؟ ! ولِمَ يساءُ بهم الظَّن، فيُظَنَّ أنهم ظانون أن ذلك حقيقة التوكل، بل الظن بهم أنهم يعلمون حقيقة التوكل، وأنه كما لا ينافي التسبب لا ينافي أيضا عدم السبب. وما ذكره من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا حجة له فيه على أن التوكل لابد معه من التسبب، إذْ مَسَاقُ كلامه يقتضي أن التوكل مع التسبب يصحُّ، ومع عدم التسبب يصح. وما عدَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التوكل إلا لأنه العَلَم المقتدَى به، والاقتداء به ليس مختصا بالخواص، والجمهورُ قلما تطمئن نفوسهم إلا مع التسبب، والأحكام الشرعية وَاردة على الغالب لا على النادر. مع أنه لقائل أن يقول: إن التوكل، وإن صحَّ مع التسبب وعدمه، فالتوكل مع التسبب راجع في حقه للحاجة لتعليم الجمهور كما سبق، ولأمْنِهِ من شائبة مراعاة الأسباب لعصمته - صلى الله عليه وسلم -. والتوكل مع عدم التسبب رجع في حق غيره لعدم أمنه من شائبه مراعاة الأسباب لعدم عصمته، واللهُ تعالى أعلم. قلْتُ: ودخول سيد المتوكلين، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -، محفوفا بالخيل والرجال الخ، يقصد به المؤلف دخوله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فاتحًا لها منتصرا في السَّنَةِ الثامنة من الهجرة، ومُحَاطا بصحابته الأبْرَار. (٣٩) قال ابن الشاط: ما قاله القرافي في ذلك صحيح لا ريب فيه.