للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شمول قدرته انقطاع القلب عن غيره، ومقتضَى عادته التماس فضله في عوائده، فيَحصُلُ الأدَبُ. (٤٠)

وقد انقسمت الخلائق في هذا الباب ثلاثةَ أقسامْ:

١) قسم عاملوا الله بمقتضَى شمول القدرة فحصَّلوا على حقيقة التوكل، وأعرضوا عن الأسبابِ ففاتهم الأدب.

وقسْمٌ لاحظوا الأسبابَ واستولتْ على قلوبهم فحجبَتْهُم عن الله تعالى، وهؤلاء فاتهُمْ التوكل والأدب، وفي هذا هلَكَ أكثر الخلائق.

٢) وقسمٌ عامَلُوا الله بمقتضى شمول القدرة وعوائده في مُلْكه، فهؤلاء جامعون بين التوكل والأدب، وهذا مَقام الأنبياء وخواصِّ العلماء والأصفياء.

واعلم أن قليل الأدب خيرٌ من كثير من العمل، ولذلك هلك إبليس، وضاعَ عمله بقلة أدبِهِ. (٤١)


(٤٠) قال ابن الشاط: قد اعترف (أي القرافي) هنا بأن حقيقة التوكل، المعامَلَةُ بمُقتضَى شمول القدرة والإرادة مع الإعراض عن الأسباب، وهو عين ما عاب على العُبَّادِ حيث قال: "ظانين أن هذه الحالة هي حقيقة التوكل". فقوله هنا مناقِض بظاهره لذلك، وقد تقدم بيان أن التوكل يصح مع التسبب ومع عدمه، وأن الرسل ومن في معناهم من العلماء المقتدَى بهم يترجح في حقهم التوكل مع التسبب لضرورة اقتداء الجمهور بهم، مع ما تَخْتصُّ بِهِ الرسل من العصمة، وأن من عَدَاهم ممن ليس مقتضيا للاقتداء به يترجح في حقه التوكل مع عدم التسبب، لأنه أبعد من شائِبةِ مراعاة الأسباب، واللهُ تعالى أعلم.
(٤١) زاد القرافي هنا قوله ودُعاءه: "فنسأل الله تعالى السلامة في الدنيا والآخرة، وقال الرجل الصالح لابنه: "إعمل عملك مِلْحاً وأدَبَك دقيقا"، أيْ ليَكُن استكثارك من الأدب أكثر من استكثارك من العمل، لكثرة جدواه ونفاسة معناه، ويَدُل على تحريم طلب خرق العوائد قولُه تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، أي لا تَركبوا الأخطار التي دلتْ العادة على أنها مهْلِكَة، وقَولُهُ تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، أي الوقاية لكم من الحاجة إلى السؤال والسرقة، فإنهم كانوا يسافرون إلى الجهاد والحج بغير زاد، فربما وقع بعضهم في إحدى المفسدَتين المذكورتين، فأمَرَهُم الله بالتزام العوائد، وحرم عليهم تَركَها، فإن المأمور به منهيُّ عن ضده، بل عن أضداده، وقدْ قيل لبعضهم: إن كنت متوكلا على الله ومعتمِداً عليه وواثقا بقضائه وقَدره فألقِ نفسك من هذا الحائط فإنه لا يصيبُك إلا ما قُدِّر لك، فقال: إن الله تعالى خلَقَ عباده ليجربهم ويمتحنهم لا ليجربوه ويمتحنوه"، إشارة إلى سلوك الأدب مع الله تعالى.
جعلنا الله تعالى من أهل الأدب معه سبحانه ومع عباده الصالحين حتى نلقاهُ على ذلك، بمنِّه وكَرَمِهِ. آمين. =

<<  <  ج: ص:  >  >>