للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: القولُ في هذا كالقول في الذي قبله حرْفاً بحرف. وما ذكره شهاب الدين من جواب على قوله: "وابْعَثْه المقَامَ المحمود"، لا يَصلُحُ أن يكون جوابا.

القسم الخامس أن يطلب الداعى من الله تعالى نفْي ما دلَّ السمعُ الوارد بطريق الآحاد على ثبوته، وهذا كأنْ يقول: اللهم اغفر للمسلمين جميع ذنوبهم، فقد دلَّتْ الآحاد على دخول طائفة من المسلمين النارَ. (٥٢). قال شهاب الدين: وهذا يخالفه (٥٣) ما عليه الناس في أدعيتهم من قولهم: اللهم اغفر لي ولجميع المسلمين، (٥٤)، فيقال: إنْ قصَدَ مغفرة الذنوب كلها فلا يجوز، وإن أراد لهم


(٥٢) ففي الحديث الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النِساءَ قلن للنبي - صلى الله عليه وسلم: إجْعل لنا يوماً (أي خَصِّصْ لنا يوما للتفقيه في الدين، وللتذكير والموعظةِ)، فوعَظهن وقال: "أيما امرأةٍ مات لها ثلاثةٌ من الولد كانوا لها حجابا من النار. قالت امرأة: واثنان، قال: واثنان". رواه الشيخان والنسائي. وعن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من الناس من مسلم يُتَوَفى له ثلاثة لم يبلغوا الحِنْث (أي لم يبلغوا سِن التكليف ومبلغ الرجال والنساء) إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهُم"، أي بفضل زيادة رحمة الله لأولئك الأولاد، أو بزيادة رأفة الله بالآباء يدْخلهم الجنة. رواه البخاري والنسائي رحمهمَا الله.
(٥٣) أي فدخول بعض المسلمين للنار إنما هو بذنوبهم التي لم يغفرها الله لهم، وخروجُهم منها يكون بشفاعة ومغفرة، وفضل من الله ورحمةٍ، فلو غفر لجميع المسلمين ذنوبَهم كلها لم يدخل أحدٌ النار، فيكون هذا الدعاء مستلزِماً لتكذيب تلك الأحاديثِ الصحيحة، فيكون معصية ولا يكون كفراً، لأنها أخْبَارُ آحادٍ، والتكفيرُ إنما يكون بجحد ما عُلم ثبوته بالضرورة أو بالتواتر.
ثم طرح القرافي هنا سؤالا على نفسه، وقال: فإن قلت: إن من آداب الدعاء إذا قال الإنسان: اللهم اغفر لي أن يقول: ولجميع المسلمين، وهذا خلاف ما قررتَهُ. وقد أخبر الله تعالى عن الملائكة صلوات الله عليهم أنهم يقولون كما جاء في كتابه العزيز: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}، أي تابوا من الكفر واتبعوا الإسلام. ولفْظُ الذين عامٌّ في التائبين من الكفر وهم المؤمنون، فيكون عاماً في المؤمنين، وكذلك قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}، وهو خلاف ما قرَّرتَه. سورة غافر، الآية ٧.
فأجاب القرافي عن الإشكال الأول بما هو مختصر وملَخَّص عند البقوري بقوله هنا:
إنْ قَصد مغفرة الذنوب كلها فلا يجوز، وإن أراد لهم المغفرة من حيث الجملة جازَ.
وأجاب عن الثاني وهو دعاء الملائكة واستغفارُهُم للمؤمنين في الأرض، بأن ذلك الدعاء والاستغفار لا عموم فيه وفي ألفاظه، لكونها أفعالا في سياق الثبوت فلا تَعُمُّ، إجماعا، ولو كانت للعموم لوجبَ أن يُعتقَد أنهم أرادوا بها الخصوص، وهو المغفرة من حيث الجملة، للقواعد الدالة على ذلك.
(٥٤) كذا في نسختي ع، وح. وفي نسخة ت: بخلاف ما عليه الناس في أدعيتهم، ولا يظهر أثر لاختلاف المعنى بالنسبة للكلمتين: الفعل، والاسم هنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>