للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فجعل هذه الذكاة هي عين ذكاة أمه إنما يصدق حينئذ على سبيل المجاز، كقولنا:

أبو يوسف، أيو حنيفة (١٠٣)، والأصل عدم المجاز، وهو خلاف الظاهر، فكيف

يقال: إن هذا اللفظ، بوضعه يقتضى أن عين ذكاة الجنين هي ذكاة أمه.

فقال: قلت: سؤال حسن، والجواب عنه يحتاج إلى جودة فكر، فيقول: الاضافة إلى المصادر تصح بأدنى ملابسة، بخلاف الإِسناد إلى الفعل، فيفرق بين ذكيت الجنين، فهذا لا يصدق إلا إذا قطعت منه موضع الذكاة، وذكاة الجنين تصدق بأيسر ملابسة، واحد الطرق (أي طرق الملابسة) إنه جزء من أمه، وأمه قد ذكيت، فهو قد ذكي. فعلى هذا التقدير، ذكاة أمه هي عين ذكاته حقيقة لا مجازًا.

قلت: تطويل، وتهويل. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، المقصود منه تبيين شريعة يَشْرعَها. فالمراد بقوله: ذكاة الجنين، الذكاة: الشرعية المطلولة في الجنين هي الذكاة: التى شرعت لكم، وبيِّنَتَ (١٠٤) في أمه، فلا حاجة للجنين إلى أكثر منها، وقام معنى الحصر الذي ذكره الفقهاء رضي الله عنهم، ولا حاجة لشيء مِمَّا تقدم.

ثم قال: واعْلَمْ أن هذا الحديث، يُروَى بالرفع في الذكاة الثانية وبالنصب، فتمسكَتْ المالكية والشافعية برواية الرفع، وتمسَّكَ الحنفيةُ في قولهم: يذَكِّى


(١٠٣) هذا تشبيه لأبى يوسف بشيخه الإمام أبى حنيفة النعمان، فهو أكبر تلامذته، أكثرهم فقهًا، وأخذا عنه، حتَّى صار أشبه به في المكانة العلمية والفقهية فكأنه هو أبو حنيفة، فيقال: أبو يوسف أبو حنيفة.
وهذا التشبيه والتفسير بهذه الجملة هو من الأمثلة التي يأتي بها النحاة أثناء الكلام على جواز تقدم الخبر على المبتدأ أو على جواز منعه فيما إذا كان كل منهما معرفة أو نكرة، ولم تكن هناك قرينة يتميز بها المبتدأ من الخبر سوى الوضع اللغوى والترتيب الاصلى بجعل المبتدأ في أول الجملة، وقال ابن مالك في ألفيته النحوية:
والأصل في الاخبار أن تؤخَّرا ... وجوَّزوا التقديم إذ لا ضررا
فامنعه حين يستوى الجزآن ... عرفا ونكرا، ادمَيْ بيان
ومثالنا يجوز فيه تقديم الخبر على المبتدأ فيقال: أبو حنيفة أبو يوسف، لانه معلوم أن أبا حنيفة أعظم وأشهر علما ومكانة من أبى يوسف، فأبو يوسف هو المشبه، وأبو حنيفة هو المشبه به، وإن تقدم في اللفظ والنطق.
(١٠٤) ويحتمل ان تكون الكلمة هكذا: "وثبتت في أمّه"

<<  <  ج: ص:  >  >>