المبحث الثاني عشر إذا تعارض عند المجتهد دليلان وعجز
عن الترجيح وتحيَّر فماذا يفعل؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن عليه التوقف إلى أن يعلم أن أحدهما أرجح من
الآخر بأي أمارة، فإن لم يعلم فإنه يسقطهما، ويعمل بالبراءة
الأصلية، ولا يجوز التخيير بينهما، ولا العمل بأحدهما.
وهو مذهب أكثر الحنفية، وأكثر الشافعية، والحنابلة، وهو الحق
عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن تخيير المجتهد في الأخذ بأحد الدليلين
المتعارضين عنده يؤدي إلى باطل، وما يؤدي إلى باطل فهو باطل؛
وذلك لأن التخيير يلزم منه الجمع بين النقيضين؛ لأن التخيير هو
تساوي الطرفين، وهو الإباحة، والمباح نقيض المحرم، فإذا تعارض
دليل مبيح مع دليل محرم، فخيرنا المجتهد بين كونه محرما يأثم
بفعله، وبين كونه مباحا لا إثم على فاعله: كان ذلك جمعا بين
هذين المتناقضين، والجمع بينهما باطل.
الدليل الثاني: أنه لو تعارض دليلان عند المجتهد، أحدهما
يقضي بإيجاب الحكم، والآخر يقضي بإباحته، ثم ذهب المجتهد
إلى المذهب الثاني - وهو: تخيير المجتهد بينهما - فقد تضمن هذا
ترجيح الدليل المبيح على الدليل الموجب بلا دليل، وهذا تحكم،
والتحكم باطل بالاتفاق.