يُفْتِي إلَّا بِقَوْلِهِ اهـ.
وَقَدْ انْطَوَتْ الْقُرُونُ الْفَاضِلَةُ عَلَى عَدَمِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ بَلْ لَا يَصِحُّ لِلْعَامِّيِّ مَذْهَبٌ وَلَوْ تَمَذْهَبَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ لَهُ نَوْعُ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٌ وَبَصَرٌ بِالْمَذَاهِبِ عَلَى حَسَبِهِ أَوْ لِمَنْ قَرَأَ كِتَابًا فِي فُرُوعِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَعَرَفَ فَتَاوَى إمَامِهِ وَأَقْوَالَهُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ لِذَلِكَ أَلْبَتَّةَ بَلْ قَالَ أَنَا حَنَفِيٌّ أَوْ شَافِعِيٌّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ كَذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنَا فَقِيهٌ أَوْ نَحْوِيٌّ أَوْ كَاتِبٌ لَمْ يَصِرْ كَذَلِكَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَائِلَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِذَلِكَ الْإِمَامِ سَالِكٌ طَرِيقَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَأَمَّا مَعَ جَهْلِهِ وَبُعْدِهِ جِدًّا عَنْ سِيرَةِ الْإِمَامِ وَعِلْمِهِ بِطَرِيقِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ لَهُ الِانْتِسَابُ إلَيْهِ إلَّا بِالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ وَالْقَوْلِ الْفَارِغِ مِنْ الْمَعْنَى كَذَا ذَكَرَهُ فَاضِلٌ مُتَأَخِّرٌ قُلْت وَلَوْ شَاحَحَهُ مُشَاحِحٌ فِي أَنَّ قَائِلَ أَنَا حَنَفِيٌّ مَثَلًا لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي جَمِيعِ هَذَا الْمَذْكُورِ بَلْ مُتَّبِعُهُ فِي الْمُوَافَقَةِ فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا فَسَيَظْهَرُ جَوَابُهُ مِمَّا يَذْكُرُهُ قَرِيبًا ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيِّ: وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْهُورِ كُتُبِهِمْ جَوَازُ الِانْتِقَالِ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ وَالْعَمَلِ فِيهَا بِخِلَافِ مَذْهَبِ إمَامِهِ الَّذِي يُقَلِّدُ مَذْهَبَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّتَبُّعِ لِلرُّخَصِ وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْأَعْمَى الَّذِي اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ أَوَانِي مَاءٍ وَثِيَابٍ تَنَجَّسَ بَعْضُهَا إذَا قُلْنَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهَا بَلْ يُقَلِّدُ بَصِيرًا يَجْتَهِدُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي الْأَوَانِي وَاحِدًا وَفِي الثِّيَابِ آخَرَ وَلَا مَنْعَ مِنْ ذَلِكَ (وَقِيلَ كَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ إنْ عَمِلَ بِحُكْمٍ تَقْلِيدًا) لِمُجْتَهِدٍ (لَا يَرْجِعُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ (وَفِي غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ مَا عَمِلَ بِهِ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ (لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ.
قَالَ السُّبْكِيُّ: وَهُوَ الْأَعْدَلُ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ) أَيْ اتِّبَاعُهُ فِيمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ (شَرْعًا) بَلْ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ اقْتَضَى الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ وَتَقْلِيدَهُ فِيهِ فِيمَا احْتَاجَ إلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] وَالسُّؤَالُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ طَلَبِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَحِينَئِذٍ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ وَجَبَ عَمَلُهُ بِهِ وَالْتِزَامُهُ لَمْ يَثْبُت مِنْ السَّمْعِ اعْتِبَارُهُ مُلْزِمًا كَمَنْ الْتَزَمَ كَذَا لِفُلَانٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي النَّذْرِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ بِلَفْظِهِ كَمَا فِي النَّذْرِ أَوْ بِقَلْبِهِ وَعَزْمِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ مَثَلًا قَلَّدْت فُلَانًا فِيمَا أَفْتَى بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ تَعْلِيقُ التَّقْلِيدِ أَوْ الْوَعْدُ بِهِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَقَالَ (وَيَتَخَرَّجُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ كَوْنِهِ كَمِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ (جَوَازُ اتِّبَاعِهِ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ) أَيْ أَخْذِهِ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا مَا هُوَ الْأَهْوَنُ فِيمَا يَقَعُ مِنْ الْمَسَائِلِ (وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ إذْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْلُكَ الْأَخَفَّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ لَهُ إلَيْهِ سَبِيلٌ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِآخِرِ فِيهِ) .
وَقَالَ أَيْضًا: وَالْغَالِبُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ إلْزَامَاتٌ مِنْهُمْ لِكَفِّ النَّاسِ عَنْ تَتَبُّعِ الرُّخْصِ، وَإِلَّا أَخَذَ الْعَامِّيُّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ قَوْلُهُ أَخَفُّ عَلَيْهِ وَأَنَا لَا أَدْرِي مَا يَمْنَعُ هَذَا مِنْ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ يَتَّبِعُ مَا هُوَ أَخَفُّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَوْلِ مُجْتَهِدٍ مُسَوَّغٌ لَهُ الِاجْتِهَادُ مَا عَلِمْت مِنْ الشَّرْعِ ذَمُّهُ عَلَيْهِ (وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ مَا خُفِّفَ عَلَيْهِمْ) كَمَا قَدَّمْنَا فِي فَصْلِ التَّرْجِيحِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظٍ عَنْهُمْ وَفِي لَفْظٍ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ أَيْ أُمَّتِهِ، وَذَكَرْنَا ثَمَّةَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ قُلْت لَكِنْ مَا عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ إجْمَاعًا إنْ صَحَّ احْتَاجَ إلَى جَوَابٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ إذْ فِي تَفْسِيقِ الْمُتَتَبِّعِ لِلرُّخَصِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ وَحَمَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الرِّوَايَةَ الْمُفَسِّقَةَ عَلَى غَيْرِ مُتَأَوِّلٍ وَلَا مُقَلِّدٍ، وَذَكَر بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إنْ قَوِيَ دَلِيلٌ أَوْ كَانَ عَامِّيًّا لَا يَفْسُقُ، وَفِي رَوْضَةِ النَّوَوِيِّ وَأَصْلُهَا عَنْ حِكَايَةِ الْحَنَّاطِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَفْسُقُ بِهِ ثُمَّ لَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَحْوِ مَا يَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقُلْ بِمَجْمُوعِهِ مُجْتَهِدٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَقَيَّدَهُ) أَيْ جَوَازَ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ (مُتَأَخِّرٌ) وَهُوَ الْعَلَّامَةُ الْقَرَافِيُّ (بِأَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ) أَيْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ (مَا يَمْنَعَانِهِ) أَيْ يَجْتَمِعُ عَلَى بُطْلَانِهِ كِلَاهُمَا (فَمَنْ قَلَّدَ الشَّافِعِيَّ فِي عَدَمِ) فَرْضِيَّةِ (الدَّلْكِ) لِلْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ (وَمَالِكًا فِي عَدَمِ نَقْضِ اللَّمْسِ بِلَا شَهْوَةٍ) لِلْوُضُوءِ فَتَوَضَّأَ وَلَمَسَ بِلَا شَهْوَةٍ (وَصَلَّى إنْ كَانَ الْوُضُوءُ بِدَلْكٍ صَحَّتْ) صَلَاتُهُ عِنْدَ مَالِكٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute