الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ، ثُمَّ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْأَنْبَارِيُّ أَنَّهُ إذَا قُلْنَا إجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ لَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ إجْمَاعِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ حَتَّى يُفَسَّقَ الْمُخَالِفُ وَيُنْقَضَ قَضَاؤُهُ بَلْ حُجَّةٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَنِدَ إلَيْهِ مُسْتَنِدٌ إلَى مَأْخَذٍ مِنْ مَآخِذِ الشَّرِيعَةِ كَالْمُسْتَنِدِ إلَى الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَحْدِ (لَنَا الْأَدِلَّةُ) الْمُفِيدَةُ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ (تَوَقُّفُهُ) أَيْ تَحَقُّقُ الْإِجْمَاعِ (عَلَى غَيْرِهِمْ) أَيْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِمْ وَحْدَهُمْ.
(وَاسْتِدْلَالُهُمْ) أَيْ الْمَالِكِيَّةِ (بِأَنَّ الْعَادَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْجَمْعِ الْمُنْحَصِرِ) فِي الْمَدِينَةِ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ مَعَ اجْتِهَادِهِمْ (يَتَشَاوَرُونَ وَيَتَنَاظَرُونَ) فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا وَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى حُكْمٍ فِيهَا (لَا يُجْمِعُونَ إلَّا عَنْ رَاجِحٍ) فَيُكْتَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ وَحْدَهُمْ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ (مَنَعَ قَضَاءَهَا) أَيْ الْعَادَةِ (بِهِ) أَيْ بِإِجْمَاعِهِمْ عَنْ رَاجِحٍ دُونَ سَائِرِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِهَذَا وَالْمُوجِبُ لِانْعِقَادِهِ مِنْهُمْ وَحْدَهُمْ هُوَ الِاخْتِصَاصُ (وَدُفِعَ) الْمَنْعِ (بِأَنَّ الْمُرَادَ) مِنْ أَنَّ الْعَادَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْجَمْعِ إلَخْ أَنَّ الْعَادَةَ (قَاضِيَةٌ) فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى الْحُكْمِ إلَّا (بِاطِّلَاعِ الْأَكْثَرِ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى دَلِيلِهِ (فَامْتَنَعَ أَنْ لَا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِي الْأَكْثَرِ أَحَدٌ مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ شَأْنَ هَذَا الْجَمْعِ أَنْ لَا يُجْمِعُوا عَلَى أَمْرٍ إلَّا بَعْدَ تَشَاوُرٍ وَتَنَاظُرٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي اطِّلَاعَهُمْ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ اطِّلَاعِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَرْجَحَ مِنْهُ، فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى مَرْجُوحٍ إذْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْأَكْثَرِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَلَا يَطَّلِعُونَ عَلَى دَلِيلٍ خِلَافَ قَوْلِهِمْ إذْ رُبَّ رَاجِحٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْبَعْضُ فَيُجَابُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ مَا ذَكَرْنَا وَهَذَا احْتِمَالٌ مُمْكِنٌ بَعِيدٌ (وَالِاحْتِمَالُ) الْمُمْكِنُ الْبَعِيدُ (لَا يَنْفِي الظُّهُورَ وَهَذَا) أَيْ لَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ (انْحِطَاطٌ إلَى كَوْنِهِ) أَيْ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (حُجِّيَّةً ظَنِّيَّةً لَا) أَنَّهُ يَكُونُ (إجْمَاعًا) قَطْعِيًّا وَقَدْ صَرَّحَ أَكْثَرُ الْمَغَارِبَةِ بِهِ عَلَى مَا نَقَلَهُ السُّبْكِيُّ عَنْهُمْ فَقَالُوا وَلَيْسَ قَطْعِيًّا بَلْ ظَنِّيٌّ يُقَدَّمُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوْلِ جُمْهُورِهِمْ بَلْ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ أَوْلَى كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عَنْ الْقُرْطُبِيِّ.
(فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ مِثْلُهُ) أَيْ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بِمِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ (فِي أَهْلِ) بَلْدَةٍ (أُخْرَى) كَمَكَّةَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَحْدَهُمْ (لِذَلِكَ) أَيْ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِاطِّلَاعِ الْأَكْثَرِ عَلَى الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَطَّلِعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إلَى آخِرِ مَا وَجَّهْنَاهُ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ (اُلْتُزِمَ) هَذَا (وَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ اتِّفَاقَ مِثْلِهِمْ حُجَّةٌ يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ مِنْ خِلَافِ مِثْلِهِ) غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ مُصَرَّحًا بِهِ عَنْ مَالِكٍ وَقَدَّمْنَا نَحْوَهُ عَنْ الْأَنْبَارِيِّ وَلَا بَأْسَ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ أَفْتَى بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ بِشَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ أَوْ قَضَى بِهِ وَاشْتَهَرَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ وَسَكَتُوا بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ]
(مَسْأَلَةٌ إذَا أَفْتَى بَعْضُهُمْ) أَيْ الْمُجْتَهِدِينَ بِشَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ التَّكْلِيفِيَّةِ (أَوْ قَضَى) بَعْضُهُمْ بِهِ وَاشْتَهَرَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ وَسَكَتُوا بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ وَنَظَرِهِمْ فِيهِ (وَلَمْ يُخَالِفْ) فِي الْفُتْيَا وَلَا فِي الْقَضَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ (قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ) فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى هَذَا (إلَى مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ) وَهِيَ عَلَى مَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ حِينَ يَتَبَيَّنُ لِلسَّاكِتِ الْوَجْهُ فِيهِ وَفِي الْمِيزَانِ وَأَدْنَاهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ أَيْ مَجْلِسِ بُلُوغِ الْخَبَرِ وَقِيلَ يُعْذَرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ بُلُوغِ الْخَبَرِ قِيلَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ حَيْثُ قَالَ فَإِذَا اسْتَمَرَّتْ الْأَيَّامُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْ السَّاكِتُ خِلَافًا مَعَ الْعِنَايَةِ مِنْهُمْ بِأَمْرِ الدِّينِ وَحِرَاسَةِ الْأَحْكَامِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ إنَّمَا لَمْ يُظْهِرُوا الْخِلَافُ؛ لِأَنَّهُمْ مُوَافِقُونَ لَهُمْ انْتَهَى. لِأَنَّهُ قَيَّدَ ذَلِكَ بِالْأَيَّامِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ قُلْت وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّ تَرْكَ إظْهَارِ الْخِلَافِ إنَّمَا يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى الْمُوَافَقَةِ إذَا انْتَشَرَ الْقَوْلُ وَظَهَرَ وَمَرَّتْ عَلَيْهِ أَوْقَاتٌ يُعْلَمُ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُخَالِفٌ لَأَظْهَرَ الْخِلَافَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى غَيْرِهِ مَقَالَتَهُ إذْ كَانَ قَدْ اسْتَوْعَبَ مُدَّةَ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ انْتَهَى.
وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو زَيْدٍ وَغَيْرُهُ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ (وَلَا تَقِيَّةَ) أَيْ خَوْفٍ يَمْنَعُ السَّاكِتَ مِنْ الْمُخَالَفَةِ (فَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ) وَأَحْمَدَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ كَأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ أَنَّ هَذَا (إجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ) مِنْ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ فِي الْفُتْيَا (كَذَلِكَ) أَيْ إجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ (لَا فِي الْقَضَاءِ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute