للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُوسِيقَى وَالْحِسَابِ فَإِنَّ مَوْضُوعَ الْمُوسِيقَى النَّغَمُ مِنْ حَيْثُ يَعْرِضُ لَهَا نِسَبٌ عَدَدِيَّةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِلتَّأْلِيفِ أَيْ لِتَأْلِيفِ النِّسَبِ وَالنَّغَمِ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَسْمُوعَةِ فَلَوْلَا هَذِهِ الْحَيْثِيَّةُ لَكَانَ جُزْءًا مِنْ الطَّبِيعِيِّ لَكِنْ النِّسَبُ الْعَدَدِيَّةُ أَعْرَاضٌ خَاصَّةٌ لِلْعَدَدِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ عِلْمِ الْحِسَابِ فَيَكُونُ عِلْمُ الْمُوسِيقَى تَحْتَ عِلْمِ الْحِسَابِ مَعَ تَبَايُنِ مَوْضُوعَيْهِمَا؛ لِأَنَّ النَّغَمَ إذَا بُحِثَ فِيهَا عَنْ النِّسَبِ الْعَدَدِيَّةِ فَلَا بُدَّ، وَأَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا ضَرْبٌ مِنْ التَّعَدُّدِ فَكَأَنَّهَا فَرَضَتْ عَدَدًا مَخْصُوصًا فَتَنْدَرِجُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَحْتَ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ عِلْمِ الْحِسَابِ فَظَهَرَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَذْكُورَ مِنْ قَوْلِهِ كَانَتْ مُتَبَايِنَةً، وَأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَهُ عَنْ مُتَدَاخِلَةٍ لِيَتَّصِلَ الِاسْتِثْنَاءُ بِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ لِلْآخَرِ مُتَعَلِّقٌ بِعُرُوضٍ لَا بِالْمُبَايِنِ.

ثُمَّ جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْعُلُومَ إمَّا مُتَدَاخِلَةٌ أَوْ مُتَنَاسِبَةٌ أَوْ مُتَبَايِنَةٌ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِتَدَاخُلِ مَوْضُوعَاتِهَا وَتَنَاسُبِهَا وَتَبَايُنِهَا فَإِنْ كَانَتْ مَوْضُوعَاتُهَا مُتَدَاخِلَةً بِأَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ أَحَدِ الْعِلْمَيْنِ أَعَمَّ مِنْ مَوْضُوعِ الْعِلْمِ الْآخَرِ أَوْ مَوْضُوعُ أَحَدِهِمَا مِنْ حَيْثُ يُقَارِنُ أَعْرَاضًا خَاصَّةً بِمَوْضُوعِ الْآخَرِ سُمِّيَتْ الْعُلُومُ مُتَدَاخِلَةٌ وَسُمِّيَ الْعِلْمُ الْخَاصُّ مَوْضُوعًا تَحْتَ الْعِلْمِ الْعَامِّ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَوْضُوعَاتُ مُتَدَاخِلَةً فَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً لَكِنْ تَتَعَدَّدُ بِالِاعْتِبَارِ أَوْ كَانَتْ أَشْيَاءَ لَكِنَّهَا تَشْتَرِكُ فِي الْبَحْثِ أَوْ تَنْدَرِجُ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ سُمِّيَتْ مُتَنَاسِبَةٌ، وَإِلَّا فَمُتَبَايِنَةٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ مِنْ الْخَوَاصِّ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ الْمُصَنِّفِ تَعَقُّبًا لِكَثِيرٍ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَاعْلَمْ أَنَّ إيرَادَهُمْ) فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ فِي الْعُلُومِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا (كُلًّا مِنْ الْحَدِّ وَالْمَوْضُوعِ وَالْغَايَةِ لِتَحْصِيلِ الْبَصِيرَةِ لَا يَخْلُو عَنْ اسْتِدْرَاكٍ إلَّا مِنْ حَيْثُ التَّسْمِيَةُ بِاسْمٍ خَاصٍّ وَلَمْ يُورِدْهُ لِذَلِكَ) ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِيمَا كَتَبْنَاهُ عَنْهُ مِنْ الْحَوَاشِي فَقَالَ اعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَهُمْ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي التَّعْرِيفَ وَالتَّصْدِيقَ بِالْمَوْضُوعِ وَالْغَايَةِ لَا يَخْلُو عَنْ اسْتِدْرَاكٍ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ إنْ أُخِذَ فِيهِ الْمَوْضُوعُ نَحْوَ بَاحِثٍ عَنْ أَحْوَالِ كَذَا أَعْنِي عَنْ إفْرَادِ التَّصْدِيقِ بِالْمَوْضُوعِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ إذْ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كَذَا لِذَلِكَ الْمَذْكُورِ بِاسْمِهِ هُوَ الْمَبْحُوثُ عَنْ أَحْوَالِهِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَوْضُوعَهُ مَاذَا نَعَمْ لَا يَعْلَمُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُسَمَّى لَفْظِ الْمَوْضُوعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخِلّ بِالْمَقْصُودِ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْضُوعِ فِي أَوَائِلِ الْعُلُومِ، وَهُوَ حُصُولُ الْبَصِيرَةِ أَوْ مَزِيدُهَا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَرَتَّبَتْ عَلَى مَعْرِفَةِ خُصُوصِ مَا يُبْحَثُ فِي هَذَا الْعِلْمِ عَنْ أَحْوَالِهِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ مُسَمًّى بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ فَإِنَّا لَوْ لَمْ نُسَمِّهِ بِخُصُوصِ اسْمٍ سِوَى أَنَّ كَذَا هُوَ الْمَبْحُوثُ عَنْ أَحْوَالِهِ فِي الْعِلْمِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ.

وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ فِي التَّعْرِيفِ الْمَوْضُوعُ اسْتَلْزَمَ مَعْرِفَةَ غَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُمَيِّزِ، وَهُوَ فِي رَسْمِ مَفْهُومِ الْعِلْمِ لَيْسَ إلَّا حَيْثِيَّةُ الْغَايَةِ كَتَعْرِيفِ الْمَوَاقِفِ عِلْمٌ يُقْتَدَرُ مَعَهُ عَلَى إثْبَاتِ الْعَقَائِدِ فَإِنَّ مَلَكَةَ إثْبَاتِهَا هِيَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ أَوَّلًا، وَإِنْ كَانَ يُقَالُ غَايَتُهُ التَّرَقِّي مِنْ التَّقْلِيدِ إلَى الْإِيقَانِ بِالْعَقَائِدِ، وَقَمْعُ الْمُبْطِلِينَ وَالدَّرَجَاتِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ غَايَةُ الْغَايَةِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ غَايَةُ أُصُولِ الْفِقْهِ حُصُولُ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ مَعَ أَنَّهُ يَتَأَتَّى فِيهِ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا هُوَ الْغَايَةُ ابْتِدَاءً فَالْعِلْمُ بِهِ لَازِمُ الْعِلْمِ بِالْغَايَةِ الْأُولَى إذْ يَلْزَمُ كَوْنُهُ ذَا مَلَكَةٍ إثْبَاتَ الْعَقَائِدِ فَتَحَصَّلَ أَنَّ تَعْرِيفَ الْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْضُوعِ، وَهُوَ حَدُّهُ لَا حَاجَةَ مَعَهُ فِي تَحْصِيلِ الْبَصِيرَةِ الْكَائِنَةِ فِي تَصَوُّرِ الْمَوْضُوعِ إلَى إفْرَادِ تَصْدِيقٍ بِهِ، وَمَعَ رَسْمِهِ لَا حَاجَةَ فِي تَحْصِيلِ الْبَصِيرَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ مَعْرِفَةِ غَايَتِهِ إلَى إفْرَادِ تَصْدِيقٍ بِهَا نَعَمْ يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا فِي إفَادَةِ لَفْظٍ اصْطِلَاحِيٍّ هُوَ اسْمُ الْمَوْضُوعِ وَالْغَايَةِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّمُوا ذِكْرَهُ لِهَذَا الْغَرَضِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِيَزْدَادَ جِدُّ الطَّالِبِ فِي الْغَايَةِ اهـ. نَعَمْ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ لِلْمُحَقِّقِ الشَّرِيفِ وَاعْلَمْ أَنَّ الِامْتِيَازَ الْحَاصِلَ لِلطَّالِبِ بِالْمَوْضُوعِ إنَّمَا هُوَ لِلْمَعْلُومَاتِ بِالْأَصَالَةِ وَلِلْعُلُومِ بِالتَّبَعِ وَالْحَاصِلُ بِالتَّعْرِيفِ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ إنْ كَانَ تَعْرِيفًا لِلْعِلْمِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ تَعْرِيفًا لِلْمَعْلُومِ فَالْفَرْقُ أَنَّهُ قَدْ يُلَاحَظُ الْمَوْضُوعُ فِي التَّعْرِيفِ كَمَا فِي تَعْرِيفِ الْكَلَامِ إنْ جُعِلَ تَعْرِيفًا لِمَعْلُومِهِ، وَهُوَ غَيْرُ قَادِحٍ أَيْضًا فِي هَذَا الَّذِي أَفَادَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ.

[الْأَمْر الثَّالِثُ الْمُقَدِّمَاتُ الْمَنْطِقِيَّةُ مَبَاحِثُ النَّظَرِ]

الْأَمْرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>