للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْجَدَلِ وَأَسْئِلَةِ الِاسْتِرْشَادِ.

وَمِنْ هُنَا وَقَعَ التَّخَبُّطُ وَإِلَّا فَالْحَقُّ أَنْ لَا يُبْنَى الْجَدَلُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْإِرْشَادِ وَالِاسْتِرْشَادِ لَا لِلْعِلِّيَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْوَاجِبُ رَدُّ الْجَمِيعِ إلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَكَيْفَ لَا وَالْجَدَلُ مَأْمُورٌ بِهِ بِالْحَقِّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَفَعَلَهُ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ ثُمَّ كَمَا فِي الْوَاضِحِ لَوْلَا مَا يَلْزَمُ مِنْ إنْكَارِ الْبَاطِلِ وَاسْتِنْقَاذِ الْهَالِكِ بِالِاجْتِهَادِ فِي رَدِّهِ عَنْ ضَلَالَتِهِ لَمَا حَسُنَتْ الْمُجَادَلَةُ لِلْإِيحَاشِ فِيهَا غَالِبًا وَإِذَا نَفَرَتْ النُّفُوسُ عَمِيَتْ الْقُلُوبُ وَخَمَدَتْ الْخَوَاطِرُ وَانْسَدَّتْ أَبْوَابُ الْفَوَائِدِ وَلَكِنْ فِيهَا أَعْظَمُ الْمَنْفَعَةِ إذَا قَصَدَ بِهَا نُصْرَةَ الْحَقِّ وَالتَّقَوِّي عَلَى الِاجْتِهَادِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ قَصْدِ الْمُغَالَبَةِ وَبَيَانِ الْفَرَاهَةِ فَضْلًا عَنْ قَصْدِ التَّغْطِيَةِ عَلَى الْحَقِّ وَتَرْوِيجُ الْبَاطِلِ بِآفَةٍ مِنْ الْآفَاتِ مِنْ مُحَابَاةٍ لِأَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ تَقَرُّبًا إلَيْهِمْ أَوْ مُنَاضَلَةً مَرْدُودَةً دَوْمًا لِحُصُولِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ الْعَوَامّ وَالتَّعْظِيمِ لَدَيْهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُصُودِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ الْمَكْرُوهَةِ وَمَنْ بَانَ لَهُ سُوءُ قَصْدِ خَصْمِهِ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إنْ أَدَّى إلَى مَكْرُوهٍ فَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٍ فَمُحَرَّمٌ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: ٢] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج: ٦٨] قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَهَذَا أَدَبٌ حَسَنٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ لِيَرُدُّوا بِهِ مَنْ جَادَلَ تَعَنُّتًا فَلَا يُجِيبُوهُ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ اجْتِمَاعَ جَمْعٍ مُتَجَادِلِينَ فِي مَسْأَلَةٍ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ لَا يَطْمَعُ أَنْ يَرْجِعَ إذَا ظَهَرَتْ لَهُ الْحُجَّةُ وَلَا فِيهِ مُؤَانَسَةٌ وَمَوَدَّةٌ وَتَوْطِئَةُ الْقُلُوبِ لِوَعْيِ الْحَقِّ بَلْ هُوَ عَلَى الضِّدِّ مَحْمَلُ مَا رَوَى أَحْمَدُ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ثُمَّ تَلَا {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا} [الزخرف: ٥٨] » وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْمِرَاءَ» .

وَكَوْنُ مَكْحُولٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي هَذَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ وَمَنْ تَرَكَهُ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلَاهَا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ يُقَالُ مَارَى يُمَارِي مُمَارَاةً وَمِرَاءً أَيْ جَادَلَ وَالْمِرَاءُ اسْتِخْرَاجُ غَضَبِ الْمُجَادِلِ مِنْ مَرَيْت الشَّاةَ اسْتَخْرَجْت لَبَنَهَا وَفِي الْوَاضِحِ وَاحْذَرْ الْكَلَامَ فِي مَجَالِسِ الْخَوْفِ أَوْ الَّتِي لَا إنْصَافَ فِيهَا وَكَلَامَ مَنْ تَخَافُهُ أَوْ تَبْغُضُهُ أَوْ لَا يَفْهَمُ عَنْك وَاسْتِصْغَارَ الْخَصْمِ وَلَا يَنْبَغِي كَلَامُ مَنْ عَادَتُهُ ظُلْمُ خَصْمِهِ وَالْهُزْءُ وَالتَّشَفِّي لِعَدَاوَتِهِ وَالْمُتَرَصِّدُ لِلْمَسَاوِئِ وَالتَّحْرِيفُ وَالتَّزَيُّدُ وَالْبُهْتُ، وَكُلُّ جَدَلٍ وَقَعَ فِيهِ ظُلْمُ الْخَصْمِ اخْتَلَّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَزَ مِنْهُ وَقَدِّرْ فِي نَفْسِك الصَّبْرَ وَالْحِلْمَ وَلَا يَنْقُصُ بِالْحِلْمِ إلَّا عِنْدَ جَاهِلٍ وَلَا بِالصَّبْرِ عَلَى شَغَبِ السَّائِلِ إلَّا عِنْدَ غَبِيٍّ وَتَرْتَفِعُ فِي نُفُوسِ الْعُلَمَاءِ وَتَنْبُلُ عِنْدَ أَهْلِ الْجَدَلِ وَمَنْ خَاضَ فِي الشَّغَبِ تَعَوَّدَهُ وَمَنْ تَعَوَّدَهُ حُرِمَ الْإِصَابَةَ وَاسْتُدْرِجَ إلَيْهِ وَمَنْ عُرِفَ بِهِ سَقَطَ سُقُوطَ الدُّرَّةِ وَفِي رَدِّ الْغَضَبِ الظَّفَرُ وَلَا رَأْيَ لِغَضْبَانَ وَالْغَالِبُ فِي السَّفَهِ الْأَسْفَهُ كَالْغَالِبِ بِالْعِلْمِ الْأَعْلَمُ وَمَعَ هَذَا فَلَا أَحَدَ يَسْلَمُ مِنْ الِانْقِطَاعِ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ.

وَلَيْسَ حَدُّ الْعَالِمِ كَوْنَهُ حَاذِقًا بِالْجَدَلِ فَإِنَّهُ صِنَاعَةٌ وَالْعِلْمُ صِنَاعَةٌ وَهُوَ مَادَّةُ الْجَدَلِ يَحْتَاجُ إلَى الْعَالِمِ وَلَا عَكَسَ وَأَدَبُ الْجَدَلِ يَزِينُ صَاحِبُهُ وَتَرْكُهُ يَشِينُهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ لِمَا اتَّفَقَ لِبَعْضِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ حَظْوَةٍ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ رَفِيعًا عِنْدَ الْجُهَّالِ فَهُوَ سَاقِطٌ عِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ وَيُكْرَهُ اصْطِلَاحًا تَأْخِيرُ الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ كَثِيرًا وَعِنْدَ بَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ مُنْقَطِعٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ لِمَحَاسِنِ الْآدَابِ وَالْهَادِي إلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ.

[خَاتِمَةٌ لِلْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ]

(خَاتِمَةٌ) لِلْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ (الِاتِّفَاقُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ) أَيْ عَلَى كَوْنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ أَدِلَّةً شَرْعِيَّةً لِلْأَحْكَامِ (عِنْدَ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ) وَهُمْ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ (وَاخْتُلِفَ فِي أُمُورٍ) أُخْرَى أَيْ فِي كَوْنِهَا أَدِلَّةً شَرْعِيَّةً لِلْأَحْكَامِ (الِاسْتِدْلَال بِالْعَدَمِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّعْلِيلُ بِالْعَدَمِ فَإِنَّهُ الَّذِي (نَفَاهُ الْحَنَفِيَّةُ) وَتَقَدَّمَ فِي الْمَرْصَدِ الثَّانِي مِنْ شُرُوطِ الْعِلَّةِ الْكَلَامُ فِيهِ نَفْيًا لَهُ مُطْلَقًا عَنْهُمْ إلَّا عَدَمَ عِلَّةٍ مُتَّحِدَةٍ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ وَلَدُ الْمَغْصُوبِ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لَمْ يَغْصِبْ عَلَى تَحْقِيقٍ لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ إنَّمَا هِيَ إضَافَةٌ إلَى الْعَدَمِ لَفْظًا وَإِلَى الْوُجُودِ مَعْنًى

<<  <  ج: ص:  >  >>