للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ (وَلَا يَمْنَعُ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ) مِنْ قَطْعِ طَرِيقٍ أَوْ غَيْرِهِ (الرُّخْصَةَ) عِنْدَ أَصْحَابِنَا.

وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ يَمْنَعُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الرُّخْصَةَ نِعْمَةٌ فَلَا تُنَالُ بِالْمَعْصِيَةِ فَيُجْعَلُ السَّفَرُ مَعْدُومًا فِي حَقِّهَا كَالسُّكْرِ يُجْعَلُ مَعْدُومًا فِي حَقِّ الرُّخَصِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِزَوَالِ الْعَقْلِ لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً ثَانِيهِمَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٧٣] فَإِنَّهُ جَعَلَ رُخْصَةَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ مَنُوطَةً بِالِاضْطِرَارِ حَالَ كَوْنِ الْمُضْطَرِّ غَيْرَ بَاغٍ أَيْ خَارِجٍ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَادٍ أَيْ ظَالِمٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ فَيَبْقَى فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الرُّخَصِ بِالْقِيَاسِ أَوْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الْفَصْلِ وَلِأَصْحَابِنَا إطْلَاقُ نُصُوصِ الرُّخَصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٤] وَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ» وَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَّتَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ لِلْمُسَافِرِ وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً» وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِيهِ جَعْلَ الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْمَعْصِيَةَ (لَيْسَتْ إيَّاهُ) أَيْ السَّفَرَ بَلْ هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تُوجَدُ بِدُونِهِ وَيُوجَدُ بِدُونِهَا وَالسَّبَبُ هُوَ السَّفَرُ نَعَمْ هِيَ مُجَاوِرَةٌ لَهُ وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ بِهِ وَالْمَسْحِ عَلَى خُفٍّ مَغْصُوبٍ (بِخِلَافِ السَّبَبِ الْمَعْصِيَةُ كَالسُّكْرِ بِشُرْبِ الْمُسْكِرِ) حَيْثُ لَا مُبِيحَ لَهُ شَرْعًا فَإِنَّهُ حَدَثَ عَنْ مَعْصِيَةٍ فَلَا تُنَاطُ بِهِ الرُّخْصَةُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا وَالْفَرْضُ انْتِفَاءُ الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِيهِ فَانْتَفَى الْوَجْهُ الْأَوَّلُ (وقَوْله تَعَالَى {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: ١٧٣] أَيْ فِي الْأَكْلِ) ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ وَعَدَمَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الِاضْطِرَارِ بَلْ بِالْأَكْلِ فَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ فِي الْآيَةِ مِنْ تَقْدِيرِ فِعْلِهِ عَامِلًا فِي الْحَالِ أَيْ فَمَنْ اُضْطُرَّ فَأَكَلَ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَيَكُونُ الْبَغْيُ وَالْعِدَاءُ فِي الْأَكْلِ الَّذِي سِيقَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ حُرْمَتِهِ وَحِلِّهِ أَيْ غَيْرَ مُتَجَاوِزٍ فِي الْأَكْلِ قَدْرَ الْحَاجَةِ عَلَى أَنَّ عَادٍ مُكَرَّرٌ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ غَيْرَ طَالِبٍ لِلْمُحَرَّمِ وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهُ وَلَا مُجَاوِزٍ قَدْرَ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيَدْفَعُ الْهَلَاكَ أَوْ غَيْرَ مُتَلَذِّذٍ وَلَا مُتَرَدِّدٍ أَوْ غَيْرَ بَاغٍ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ بِالِاسْتِئْثَارِ عَلَيْهِ وَلَا مُجَاوِزٍ سَدَّ الْجَوْعَةِ.

(وَقِيَاسُ السَّفَرِ) فِي كَوْنِهِ مُرَخِّصًا (عَلَيْهِ) أَيْ أَكْلُ الْمَيِّتَةِ الْمَنُوطِ بِالِاضْطِرَارِ فِي اشْتِرَاطِ نَفْيِ عِصْيَانِ الْمُسَافِرِ كَمَا فِي الْأَكْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ (يُعَارِضُ إطْلَاقَ نَصِّ إنَاطَتِهِ) أَيْ ثُبُوتِ الرُّخَصِ (بِهِ) أَيْ بِالسَّفَرِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِذَلِكَ كَمَا أَسْلَفْنَا بَعْضَهُ (وَيَمْنَعُ تَخْصِيصُهُ) أَيْ نَصَّهُ (ابْتِدَاءً بِهِ) أَيْ بِالْقِيَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْكَلَامِ فِي التَّخْصِيصِ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ التَّرَخُّصَ لِلْمُضْطَرِّ (لَمْ يُنَطْ بِالسَّفَرِ) إجْمَاعًا بَلْ يُبَاحُ لِلْمُقِيمِ الْمُضْطَرِّ الْعَاصِي (فَيَأْكُلُ مُقِيمًا عَاصِيًا) فَانْتَفَى الْوَجْهُ الثَّانِي، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

[الْخَطَأُ عَوَارِضُ الْأَهْلِيَّةِ الْمُكْتَسَبَةُ]

(وَمِنْهَا) أَيْ الْمُكْتَسَبَةُ مِنْ نَفْسِهِ (الْخَطَأُ أَنْ يَقْصِدَ بِالْفِعْلِ غَيْرَ الْمَحَلِّ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ الْجِنَايَةَ كَالْمَضْمَضَةِ تَسْرِي إلَى الْحَلْقِ وَالرَّمْيِ إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ آدَمِيًّا) فَإِنَّ الْقَصْدَ بِإِدْخَالِ الْمَاءِ الْفَمَ لَيْسَ إلَى وُلُوجِهِ الْحَلْقَ وَبِالرَّمْيِ لَيْسَ إلَى الْآدَمِيِّ (وَالْمُؤَاخَذَةُ بِهِ) أَيْ بِالْخَطَأِ (جَائِزَةٌ) عَقْلًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ (خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّهَا) أَيْ الْمُؤَاخَذَةَ (بِالْجِنَايَةِ) ، وَهِيَ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْقَصْدِ (قُلْنَا هِيَ) أَيْ الْجِنَايَةُ (عَدَمُ التَّثَبُّتِ) وَالِاحْتِيَاطِ وَالذُّنُوبُ كَالسَّمُومِ فَكَمَا أَنَّ تَنَاوُلَهَا يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَتَعَاطِي الذُّنُوبِ يُفْضِي إلَى الْعِقَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَزِيمَةً (وَلِذَا) أَيْ جَوَازُهَا بِهِ عَقْلًا (سُئِلَ) الْبَارِّي تَعَالَى (عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ) فَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: ٢٨٦] وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلدُّعَاءِ فَائِدَةٌ بَلْ كَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ جَوْرًا وَصَارَ الدُّعَاءُ فِي التَّقْدِيرِ رَبَّنَا لَا تَجُرْ عَلَيْنَا بِالْمُؤَاخَذَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ.

لَكِنَّهَا سَقَطَتْ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: ٢٨٤] قَالَ دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا قَالَ فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: ٢٨٦] قَالَ قَدْ فَعَلْت» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَوَهِمَ الْحَاكِمُ فَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ (وَعَنْهُ) أَيْ

<<  <  ج: ص:  >  >>