إنَّمَا عُرِفَ حُجَّةً كَرَامَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَمَتَى وَقَعَتْ حَادِثَةٌ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ قَاطِعٌ وَعَمِلُوا فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْخَطَأِ. وَجَازَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى الْخَطَأِ
كَانَ قَوْلًا بِخُرُوجِ الْحَقِّ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَمَسُّ الْحَاجَةِ إلَى تَجْدِيدِ الرِّسَالَةِ وَلَا وَجْهَ إلَيْهِ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِكَوْنِ رَسُولِنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ فَصَارَ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً لِهَذِهِ الْحَاجَةِ أَلَا يُرَى أَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِمَا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ حَالَ حَيَاةِ رُسُلِهِمْ وَبَعْدَ وَفَاتِهِمْ بِتَجْدِيدِ الرِّسَالَةِ وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ فِي حَالِ حَيَاةِ الرَّسُولِ فَظَهَرَ أَنَّ الْحَاجَةَ فِي مَوْضِعِ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ دُونَ مَوْضِعِ الْآيَةِ الْمُفَسِّرَةِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ قَطْعًا فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَثَبَتَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ فَيَنْعَقِدُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ لَا فِي مَوْضِعٍ لَمْ تَمَسَّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِكَوْنِهِ حُجَّةً لَا تُفْصَلُ بَيْنَمَا إذَا كَانَ الدَّاعِي دَلِيلًا قَاطِعًا أَوْ ظَاهِرًا مَعَ الشُّبْهَةِ فَاشْتِرَاطُ الْقَطْعِيِّ تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ بِلَا دَلِيلٍ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ إذَا كَانَ الْمَبْنِيُّ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُحْتَمَلِ حُجَّةً فَعَلَى الْمُتَيَقَّنِ أَوْلَى كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَإِذَا قِيلَ) الْقِيَاسُ الْمُسْتَنِدُ إلَى قَطْعِيٍّ (يُفِيدُهَا) أَيْ الْقَطْعِيَّةَ (بِأَوْلَى) أَيْ بِطَرِيقٍ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ (انْتَفَى) التَّوَجُّهُ الْمَذْكُورُ (هَذَا عَلَى عَدَمِ تَفَاوُتِ الْقَطْعِيِّ قُوَّةً كَمَا أَسْلَفْنَاهُ) .
وَأَمَّا عَلَى تَفَاوُتِهِ فَبِطَرِيقٍ أَوْلَى، ثُمَّ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَالْحَاجَةُ إلَى مُطْلَقِ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ ثَابِتَةٌ وَفِي كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ تَيْسِيرٌ عَلَى النَّاسِ لِيَطْلُبُوا الْحَقَّ بِأَيِّ دَلِيلٍ اتَّفَقَ لَهُمْ وَتَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ جَائِزٌ بَلْ وَاقِعٌ بَلْ وَمُرَادٌ لَهُمْ مِنْ الشَّارِعِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَفِي الْمِيزَانِ وَلِأَنَّا وَجَدْنَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ الْكِتَابَ وَالْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ، وَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ الْمَاسَّةُ تَرْتَفِعُ بِأَحَدِهِمَا فَكَذَا إذَا وُجِدَ الْإِجْمَاعُ مَعَهَا وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ وَلَكِنْ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ وَرَفْعِ الْمُؤْنَةِ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَأَمَّا فِي زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونَ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً وَقَوْلُ الرَّسُولِ حُجَّةٌ فَيَكُونَ حُجَّتَيْنِ وَهَكَذَا تَقُولُ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ إنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لِمَا قُلْنَا انْتَهَى هَذَا، وَفِي التَّلْوِيحِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلنِّزَاعِ فِي كَوْنِ السَّنَدِ قَطْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي عَصْرٍ عَلَى حُكْمٍ ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فَظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، وَكَذَا إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ صَادِقٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فَلَا يُتَصَوَّرُ النِّزَاعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الثَّابِتِ مُحَالٌ.
[مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْلَمُوا أَيْ مُجْتَهِدُو عَصْرٍ دَلِيلًا سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُكَافِئِ لَهُ عَمِلُوا بِخِلَافِهِ]
(مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْلَمُوا) أَيْ مُجْتَهِدُو عَصْرٍ (دَلِيلًا رَاجِحًا) أَيْ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُكَافِئِ لَهُ (عَمِلُوا بِخِلَافِهِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَمِلُوا عَلَى وَفْقِهِ) أَيْ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ حَالَ كَوْنِهِمْ (مُصِيبِينَ) فِي الْحُكْمِ لَكِنْ بِدَلِيلٍ مَرْجُوحٍ (فَقِيلَ كَذَلِكَ) أَيْ لَا يَجُوزُ (لِأَنَّ الرَّاجِحَ سَبِيلُهُمْ) أَيْ الْمُؤْمِنِينَ (وَعَمِلُوا بِغَيْرِهِ) أَيْ بِغَيْرِ الرَّاجِحِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ مُوَافَقَةِ الْحُكْمِ لِلدَّلِيلِ لَيْسَ اتِّبَاعًا لَهُ بَلْ إذَا أَخَذُوهُ مِنْهُ (وَالْمُجَوِّزُ) لِعَمَلِهِمْ عَلَى وَفْقٍ رَاجِحٍ مُصِيبِينَ فِي الْحُكْمِ لَكِنَّ الْمَرْجُوحَ يَقُولُ (لَيْسَ) عَدَمُ الْعِلْمِ بِالرَّاجِحِ (بِإِجْمَاعٍ عَلَى عَدَمِهِ) أَيْ الرَّاجِحِ (لِيَكُونَ) عَمَلُهُمْ بِالْمَرْجُوحِ عَلَى وَفْقِ الرَّاجِحِ (خَطَأً) فَإِنَّ الْخَطَأَ مِنْ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَحْكُمُوا فِي وَاقِعَةٍ بِحُكْمٍ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَوْلًا بِعَدَمِ الْحُكْمِ فِيهَا (وَسَبِيلُهُمْ مَا عَمِلُوا بِهِ لَا مَا) أَيْ لَا الرَّاجِحُ الَّذِي (لَمْ يَخْطِرْ لَهُمْ بَلْ هُوَ) أَيْ الَّذِي لَمْ يَخْطِرْ لَهُمْ (حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ لَمْ يَخْطِرْ لَهُمْ (مِنْ شَأْنِهِ) أَنْ يَكُونَ سَبِيلَهُمْ لَا أَنَّهُ سَبِيلُهُمْ بِالْفِعْلِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَاِبْنُ الْحَاجِبِ، ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ بِالْعَمَلِ بِمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ فَاشْتِرَاكُهُمْ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ لَا مَحْذُورَ فِيهِ.
[مَسْأَلَةٌ الْمُخْتَارُ امْتِنَاعُ ارْتِدَادِ أُمَّةِ عَصْرٍ]
(مَسْأَلَةٌ الْمُخْتَارُ امْتِنَاعُ ارْتِدَادِ أُمَّةِ عَصْرٍ سَمْعًا، وَإِنْ جَازَ) ارْتِدَادُهُمْ (عَقْلًا) إذْ لَا مَانِعَ مِنْهُ (وَقِيلَ يَجُوزُ) شَرْعًا كَمَا يَجُوزُ عَقْلًا (لَنَا أَنَّهُ) أَيْ ارْتِدَادَهُمْ (إجْمَاعٌ عَلَى الضَّلَالَةِ) فَإِنَّ الرِّدَّةَ ضَلَالَةٌ وَأَيُّ ضَلَالَةٍ. (وَالسَّمْعِيَّةُ) مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ (تَنْفِيهِ) أَيْ إجْمَاعَهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ (وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الرِّدَّةَ تُخْرِجُهُمْ) أَيْ الْأُمَّةَ (عَنْ تَنَاوُلِهَا) أَيْ السَّمْعِيَّةِ إيَّاهُمْ (إذْ لَيْسُوا أُمَّتَهُ) حِينَئِذٍ (وَالْجَوَابُ يَصْدُقُ) إذَا ارْتَدُّوا أَنَّهُ (ارْتَدَّتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute