اسْتِحْضَارِهِ (فَشَمَلَ) هَذَا (النِّسْيَانَ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ وَالسَّهْوَ؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تُفَرِّقُ) بَيْنَهُمَا وَإِنْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ السَّهْوَ زَوَالُ الصُّورَةِ عَنْ الْمُدْرِكَةِ مَعَ بَقَائِهَا فِي الْحَافِظَةِ وَالنِّسْيَانُ زَوَالُهَا عَنْهُمَا مَعًا فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ فِي حُصُولِهَا إلَى سَبَبٍ جَدِيدٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ وَالْحَقُّ أَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ الْوِجْدَانِيَّاتِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إلَى تَعْرِيفٍ بِحَسَبِ الْمَعْنَى فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ النِّسْيَانَ كَمَا يَعْلَمُ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ (فَلَا يُنَافِي الْوُجُوبَ) وَلَا وُجُوبَ الْأَدَاءِ (لِكَمَالِ الْعَقْلِ وَلَيْسَ عُذْرًا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ) حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ جَبْرًا لِحَقِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَرَمَةٌ لِحَاجَتِهِمْ لَا لِلِابْتِلَاءِ وَبِالنِّسْيَانِ لَا يَفُوتُ هَذَا الِاحْتِرَامُ (وَفِي حُقُوقِهِ تَعَالَى) هُوَ (عُذْرُ سُقُوطِ الْإِثْمِ) كَمَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَضَعَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
(أَمَّا الْحُكْمُ) الدُّنْيَوِيُّ (فَإِنْ كَانَ) النِّسْيَانُ لِمَا هُوَ فِيهِ حَتَّى فَعَلَ مَا يُنَافِيهِ (مَعَ مُذَكِّرٍ) لَهُ بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ (وَلَا دَاعٍ) وَالْأَحْسَنُ وَلَا دَاعِيَ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ (كَأَكْلِ الْمُصَلِّي) فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا فَإِنَّ هَيْئَةَ الْمُصَلِّي مُذَكِّرَةٌ لَهُ مَانِعَةٌ مِنْ النِّسْيَانِ إذَا لَاحَظَهَا وَدُعَاءُ الطَّبْعِ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ مُنْتَفٍ عَادَةً لِقِصَرِ مُدَّتِهَا فَحِينَئِذٍ (لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُهُ) فَيُفْسِدْ الصَّلَاةَ (لِتَقْصِيرِهِ بِخِلَافِ سَلَامِهِ فِي الْقَعْدَةِ) الْأُولَى نِسْيَانًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا الْأَخِيرَةُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حُكْمُهُ فَلَا يُفْسِدُهَا لِانْتِفَاءِ الْمُذَكِّرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُصَلِّي هَيْئَةٌ مُذَكِّرَةٌ أَنَّهَا الْأُولَى وَكَثْرَةُ تَسْلِيمِهِ فِي الْقَعْدَةِ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ (أَوْ) كَانَ (لَا مَعَهُ) أَيْ لَا مَعَ مُذَكِّرٍ وَلَكِنْ (مَعَ دَاعٍ) إلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ (كَأَكْلِ الصَّائِمِ) فِي حَالِ صَوْمِهِ نَاسِيًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّوْمِ هَيْئَةٌ مُذَكِّرَةٌ بِهِ وَالطَّبْعُ دَاعٍ إلَيْهِ لِطُولِ مُدَّتِهِ (أَوْ) كَانَ (لَا) مَعَ مُذَكِّرٍ (وَلَا) مَعَ دَاعٍ إلَيْهِ (فَأَوْلَى) أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهُ (كَتَرْكِ الذَّابِحِ التَّسْمِيَةَ) فَإِنَّهُ لَا دَاعِيَ إلَى تَرْكِهَا وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَا يُذَكِّرُ إخْطَارَهَا بِالْبَالِ أَوْ إجْرَاءَهَا عَلَى اللِّسَانِ كَذَا فِي التَّلْوِيحِ قُلْتُ وَيُشْكِلُ الْأَوَّلُ بِتَعْلِيلِهِمْ حَلَّهَا بِقَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْحَيَوَانِ يُوجِبُ خَوْفًا وَهَيْبَةً وَيَتَغَيَّرُ حَالُ الْبَشَرِيَّةِ غَالِبًا لِنُفُورِ الطَّبْعِ عَنْهُ وَلِهَذَا لَا يُحْسِنُ الذَّبْحَ كَثِيرٌ خُصُوصًا مَنْ كَانَ طَبْعُهُ رَقِيقًا يَتَأَلَّمُ بِإِيذَاءِ الْحَيَوَانِ فَيَشْتَغِلُ الْقَلْبُ بِهِ فَيَتَمَكَّنُ النِّسْيَانُ مِنْ التَّسْمِيَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَيُنَاقَشُ الثَّانِي بِأَنَّ هَيْئَةَ إضْجَاعِهَا وَبِيَدِهِ الْمُدْيَةُ لِقَصْدِ إزْهَاقِ رُوحِهَا مُذَكِّرَةٌ لَهُ بِالتَّسْمِيَةِ فَالْأَوْلَى التَّوْجِيهُ بِمَا قَالُوهُ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى إبْدَاءُ حِكْمَةٍ وَإِلَّا فَالْمُفْزِعُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ السَّمْعِيُّ كَمَا عُرِفَ فِي الْفُرُوعِ.
[النَّوْمُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ]
(وَأَمَّا النَّوْمُ فَفَتْرَةُ تَعْرُضُ مَعَ) قِيَامِ (الْعَقْلِ تُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ إدْرَاكِ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فَالْفَتْرَةُ هِيَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ انْحِبَاسُ الرُّوحِ مِنْ الظَّاهِرِ إلَى الْبَاطِنِ وَهَذِهِ الرُّوحُ بِوَاسِطَةِ الْعُرُوقِ الضَّوَارِبِ تَنْتَشِرُ إلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَقَدْ تَنْحَجِرُ) أَيْ تَنْحَبِسُ (فِي الْبَاطِنِ بِأَسْبَابٍ مِثْلِ طَلَبِ الِاسْتِرَاحَةِ مِنْ كَثْرَةِ الْحَرَكَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِتَأْثِيرٍ فِي الْبَاطِنِ كَنُضْجِ الْغِذَاءِ) وَلِذَا يَغْلِبُ النَّوْمُ عِنْدَ امْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ (وَنَحْوِهِ) كَأَنْ يَكُونَ الرُّوحُ قَلِيلًا نَاقِصًا فَلَا يَفِي بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا وَلِنُقْصَانِهِ وَزِيَادَتِهِ أَسْبَابٌ طَبِيعِيَّةٌ وَالْإِعْيَاءُ مَعْنَاهُ نُقْصَانُ الرُّوحِ بِالتَّحَلُّلِ بِسَبَبِ الْحَرَكَةِ وَمِثْلُ الرُّطُوبَةِ وَالثِّقَلِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ فَيَمْنَعُهُ عَنْ سُرْعَةِ الْحَرَكَةِ كَمَا يَغْلِبُ فِي الْحَمَّامِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَتَنَاوُلِ الشَّيْءِ الْمُرَطَّبِ لِلدِّمَاغِ فَإِذَا رَكَدَتْ الْحَوَاسُّ بِسَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ بَقِيَتْ النَّفْسُ فَارِغَةً عَنْ شُغْلِ الْحَوَاسِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَزَالُ مَشْغُولَةً بِالتَّفَكُّرِ فِيمَا تُورِدُهُ الْحَوَاسُّ عَلَيْهَا فَإِذَا وَجَدَتْ فُرْصَةَ الْفَرَاغِ ارْتَفَعَ عَنْهَا الْمَانِعُ فَتَتَّصِلُ بِالْجَوَاهِرِ الرُّوحَانِيَّةِ الْمُنْتَقَشُ فِيهَا الْمَوْجُودَاتُ كُلُّهَا الْمُعَبِّرِ عَنْهَا بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَانْطَبَعَ فِيهَا مَا فِيهَا وَهُوَ الرُّؤْيَا فَإِنْ لَمْ تَتَصَرَّفْ الْقُوَّةُ الْمُخَيِّلَةُ الْحَاكِيَةُ لِلْأَشْيَاءِ بِتَمْثِيلِهَا صَدَقَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَا بِعَيْنِهَا وَلَا تَعْبِيرَ لَهَا وَإِنْ كَانَتْ الْمُخَيِّلَةُ غَالِبَةً أَوْ إدْرَاكُ النَّفْسِ لِلصُّوَرِ ضَعِيفًا بَدَّلَتْ الْمُخَيِّلَةُ مَا رَأَتْهُ بِمِثَالٍ كَالرَّجُلِ بِشَجَرَةٍ وَنَحْوِهِ، وَهِيَ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى التَّعْبِيرِ وَالْمُرَادُ بِالرُّوحِ جِسْمٌ لَطِيفٌ مُرَكَّبٌ مِنْ بُخَارٍ وَأَخْلَاطٍ مُفْضِيَةٍ لِلْقَلْبِ وَهُوَ مَرْكَبُ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّة وَبِهَا تَصِلُ الْقُوَى الْحَاسَّةُ إلَى آلَاتِهَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وَكَانَ الْأَوْلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute