للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَجْهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ مُطْلَقًا) أَيْ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ (ذَاتِيًّا لِمَا تَحْتَهُ) أَيْ جِنْسًا لِلْأَنْوَاعِ الَّتِي هِيَ الْيَقِينُ وَالظَّنُّ وَالشَّكُّ وَالْوَهْمُ (وَالْعِلْمُ الْمَحْدُودُ لَيْسَ إلَّا صِنْفًا) مِنْ بَعْضِ أَنْوَاعِهِ؛ لِأَنَّ وَاضِعَ الْعِلْمِ لَمَّا لَاحَظَ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ لَهُ فَوَجَدَهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ شَيْءٍ أَوْ أَشْيَاءَ مِنْ جِهَةٍ خَاصَّةٍ وَضَعَهُ لِيَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ فَقَدْ قَيَّدَ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ الْعِلْمِ بِعَارِضٍ كُلِّيٍّ فَصَارَ صِنْفًا، وَقِيلَ لِلْوَاضِعِ صَنَّفَ الْعِلْمَ أَيْ جَعَلَهُ صِنْفًا فَالْوَاضِعُ لِلْعِلْمِ أَوْلَى بِاسْمِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْمُؤَلِّفِينَ، وَإِنْ صَحَّ أَيْضًا فِيهِمْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ فَحِينَئِذٍ (لَمْ يَبْعُدْ كَوْنُهُ) أَيْ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ وُجُودِ الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ الَّذِي هُوَ فَرْعُ وُجُودِهِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ خِلَافًا (لَفْظِيًّا مَبْنِيًّا عَلَى) اخْتِلَافِ (الِاصْطِلَاحِ فِي مُسَمَّى) الْحَدِّ (الْحَقِيقِيِّ أَهُوَ ذَاتِيَّاتُ) الْمَاهِيَّةِ (الْحَقِيقِيَّةِ) ، وَهِيَ الثَّابِتَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ (أَوْ مُطْلَقًا) أَيْ أَوْ هُوَ الْأَمْرُ الْكُلِّيُّ الْأَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَاتِيَّاتِ الْمَاهِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوْ ذَاتِيَّاتِ الْمَاهِيَّةِ الِاعْتِبَارِيَّةِ، وَهِيَ الْكَائِنَةُ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ كَمَا إذَا اعْتَبَرَ الْوَاضِعُ عِدَّةَ أُمُورٍ فَوَضَعَ بِإِزَائِهَا أَسْمَاءً فَمَنْ اصْطَلَحَ عَلَى الْأَوَّلِ نَفَى وُجُودَ الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ لِشَيْءٍ مِنْ الْعُلُومِ؛ لِأَنَّ الْعُلُومَ الْمَحْدُودَةَ كُلَّهَا لَيْسَتْ إلَّا مَاهِيَّاتٍ اعْتِبَارِيَّةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِلْمٍ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةٍ مِنْ الْإِدْرَاكَاتِ هِيَ عُلُومٌ أَوْ ظُنُونٌ أَوْ مِنْهَا، وَمِنْهَا مُتَعَلَّقَةٌ بِأَشْيَاءَ كَمَا ذَكَرْنَا فَمُيِّزَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ تِلْكَ الْإِدْرَاكَاتِ بِنِسْبَتِهَا إلَى مُتَعَلَّقٍ خَاصٍّ فَعُدَّتْ عِلْمًا عَلَى حِدَةٍ فَكَانَ كُلُّ عِلْمٍ طَائِفَةً مِنْ الْإِدْرَاكَاتِ الْجُزْئِيَّةِ اُنْتُزِعَ مِنْهَا كُلِّيٌّ عَامٌّ كَالْعِلْمِ وَالظَّنِّ وَنَحْوِهِ، وَقُيِّدَتْ بِعَارِضٍ كُلِّيٍّ هُوَ جِهَةُ الْغَايَةِ، وَالْمَوْضُوعُ هُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِ تِلْكَ الْإِدْرَاكَاتِ الْمُنْتَزَعِ مِنْهَا وَالصِّنْفُ هُوَ النَّوْعُ الْمُقَيَّدُ بِعَارِضٍ كُلِّيٍّ فَهُوَ إذَنْ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ؛ لِأَنَّ مَاهِيَّتَهُ لَيْسَتْ بِحَقِيقِيَّةٍ بَلْ اعْتِبَارِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِيهِ دَاخِلٌ وَخَارِجٌ جَعَلَ جُزْأَهُ بِخِلَافِ النَّوْعِ، وَإِذَا انْتَفَى وُجُودُ الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ انْتَفَى كَوْنُهُ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ.

وَمَنْ اصْطَلَحَ عَلَى الثَّانِي جَوَّزَ وُجُودَ الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ لِلْعُلُومِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَحِينَئِذٍ لَا يَبْعُدُ جَوَازُ وُجُودِهِ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَالتَّعَالِيلُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ مِمَّا يُرْشِدُ إلَى ذَلِكَ وَلَوْ، وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ أَوْ مَا قَالَهُ الْآخَرُونَ لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ إذْ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَى نَفْيِ وُجُودِهِ مُطْلَقًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ وُجُودِهِ مُطْلَقًا وَلَا بُعْدَ حِينَئِذٍ فِي أَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ كَوْنِهِ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ مُطْلَقًا ذَاتِيٌّ لِمَا تَحْتَهُ مِنْ الْأَنْوَاعِ لَا عَارِضَ لَهَا هُوَ الظَّاهِرُ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَفْهُومَهُ مُعْتَبَرٌ فِيمَا تَحْتَهُ مِنْهَا يَقِينًا وَظَنًّا وَغَيْرُهُمَا لَا يَزِيدُ كُلٌّ مِنْهَا عَلَيْهِ إلَّا بِمَا يَنْضَمُّ إلَيْهِ فَيَصِيرُ بِهِ نَوْعًا فَانْدَفَعَ مَنْعُ كَوْنِهِ ذَاتِيًّا لِمَا تَحْتَهُ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ لِلْمُحَقِّقِ الشَّرِيفِ وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ انْقِسَامُ الْعِلْمِ إلَّا مَا ذَكَرْتُمْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ وَالْكَيْفِيَّاتُ لَا تَقْبَلُ التَّقْسِيمَ وَلَا يُبْحَثُ عَنْهَا بِكَمٍّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: التَّقْسِيمُ الْمَنْفِيُّ عَنْهَا تَقْسِيمُ الْكُلِّ إلَى أَجْزَائِهِ، وَمُطْلَقُ الْعِلْمِ كُلِّيٌّ مَعْقُولٌ، وَمَا تَحْتَهُ مِنْ الْمَعَانِي هِيَ جُزْئِيَّاتٌ لَهُ، وَلَا رَيْبَ فِي صِحَّةِ قِسْمَةِ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ فَيَجُوزُ السُّؤَالُ عَنْ عَدَدِ جُزْئِيَّاتِ مُطْلَقِ الْعِلْمِ وَانْقِسَامِهِ إلَيْهَا وَحَمْلُهُ بِالْمُوَاطَأَةِ عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[الْأَمْر الثَّانِي مَوْضُوع أُصُولِ الْفِقْهِ]

الْأَمْرُ (الثَّانِي) مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي مُقَدِّمَةُ هَذَا الْكِتَابِ عِبَارَةٌ عَنْهَا فِي بَيَانِ مَوْضُوعِهِ (مَوْضُوعُهُ) أَيْ أُصُولِ الْفِقْهِ (الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْكُلِّيُّ) فَالدَّلِيلُ سَيَأْتِي بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى، وَالسَّمْعِيُّ مَا ثَبَتَ كَوْنُهُ كَذَلِكَ بِالشَّرْعِ فَصَدَقَ عَلَى الْقِيَاسِ كَمَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا لَيْسَ بِسَمْعِيٍّ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ سَوَاءٌ كَانَ عَقْلِيًّا صِرْفًا أَوْ حِسِّيًّا مَحْضًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَالْكُلِّيُّ سَيَأْتِي مَعْنَاهُ أَيْضًا، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْجُزْئِيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَوْضُوعَ هَذَا الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْرَادِ أَنْوَاعِهِ أَوْ أَعْرَاضِهِ أَوْ أَنْوَاعِهَا يَكُونُ مَوْضُوعًا لِمَسَائِلِهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فَإِنْ قُلْت كَيْفَ يَسْتَقِيمُ وَصْفُ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ بِهِ، وَهُوَ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ مَوْجُودٌ فِيهِ قُلْت الْكُلِّيُّ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ هُوَ الْعَقْلِيُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>