أَعْلَمُ هَذَا وَقَدْ قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ نَصٌّ فِيهِ وَادَّعَى قَوْمٌ مِنْ أَجِلَّاءِ أَصْحَابِنَا كَالْكَرْخِيِّ وَالرَّازِيِّ وَالدَّبُوسِيِّ وَالْقَاضِي خَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ الشَّجَرِيِّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَاسْتَشْهَدُوا بِمَسَائِلَ.
وَذَكَرَ الْمُحَاسِبِيُّ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ وَعَدَّهُ مِنْ مَنَاقِبِهِ وَلَفْظُ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ تَخْصِيصُ أَحْكَامِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَأَبَاهُ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ وَالشَّافِعِيُّ وَاَلَّذِي حَكَيْنَاهُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ أَخَذْنَاهُ عَمَّنْ شَاهَدْنَاهُ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ كَانُوا أَئِمَّةَ الْمَذْهَبِ بِمَدِينَةِ الْإِسْلَامِ يَعْزُونَهُ إلَيْهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَيَحْكُونَ عَنْ شُيُوخِهِمْ الَّذِينَ شَاهَدُوهُمْ وَمَسَائِلُ أَصْحَابِنَا وَمَا عَرَفْنَا مِنْ مَقَالَتِهِمْ فِيهَا يُوجِبُ ذَلِكَ وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا وَشُيُوخِنَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ إلَّا بَعْضَ مَنْ كَانَ هَا هُنَا بِمَدِينَةِ الْإِسْلَامِ فِي عَصْرِنَا مِنْ الشُّيُوخِ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ وَلَهُ مَنَاكِيرُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي أَجْوِبَةِ مَسَائِلِهِمْ انْتَهَى وَفِي التَّحْقِيقِ ثُمَّ مَنْ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ مِنْ مَشَايِخِنَا زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِالِاسْتِحْسَانِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ وُجُودُ الْعِلَّةِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ وَالِاسْتِحْسَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ امْتَنَعَ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَنَسَبَهُ فِي الْكَشْفِ إلَى الْكَرْخِيِّ وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالُوا هُوَ لَيْسَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بَلْ الْحُكْمُ إنَّمَا انْعَدَمَ فِيهِ لِعَدَمِ عِلَّتِهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إذَا عَارِضَهُ اسْتِحْسَانٌ لَمْ يَبْقَ الْوَصْفُ عِلَّةً لِأَنَّ دَلِيلَ الِاسْتِحْسَانِ إنْ كَانَ نَصًّا فَلَا اعْتِبَارَ لِعِلَّةِ الْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَتِهِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ التَّعْلِيلِ عَدَمُ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَ إجْمَاعًا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِثْلُ النَّصِّ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ فَكَانَ أَقْوَى مِنْ الْعِلَّةِ وَالضَّعِيفُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ مَعْدُومٌ حُكْمًا.
وَكَذَا إنْ كَانَ ضَرُورَةً لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا بِالْإِجْمَاعِ أَوْ قِيَاسًا خَفِيًّا لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَالْمَرْجُوحُ فِي مُقَابَلَةِ الرَّاجِحِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ بِسَبَبِ أَنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِمَانِعٍ مَعَ قِيَامِهَا وَقَالَ الْفَاضِلُ الْقَاآنِي وَالْحَقُّ عِنْدِي هُوَ التَّفْضِيلُ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ اسْتَحْسَنَّا فِيهِ بِالْأَثَرِ وَالْإِجْمَاعِ وَالضَّرُورَةِ يُصَارُ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْصِيصِ وَإِلَّا يَلْزَمُ الْفَسَادُ وَالتَّنَاقُضُ بَيْنَ قَوْلِهِمْ التَّخْصِيصُ بَاطِلٌ وَقَوْلِهِمْ شَرْطُ صِحَّةِ التَّعْلِيلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ فِيهَا كَيْفَ يَكُونُ مَعْدُولًا عَنْ الْقِيَاسِ وَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُخِّصَ فِي السَّلَمِ مَعْنًى لِأَنَّ التَّرَخُّصَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ وَكُلُّ مَوْضِعٍ اسْتَحْسَنَّا فِيهِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ لَا يُصَارُ إلَى التَّخْصِيصِ لِانْتِفَاءِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَحْذُورَاتِ أَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ بِوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ يَظْهَرُ أَنَّ مَا كَانَ يَتَرَاءَى عِلَّةً لَمْ يَكُنْ عِلَّةً حَقِيقَةً حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّخَلُّفِ لِمَانِعٍ بَلْ الْعِلَّةُ كَانَتْ غَيْرَهُ لِمَا قُلْنَا فِي سُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ بِوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ ظَهَرَ أَنَّ التَّبَعِيَّةَ لَيْسَتْ عِلَّةً لِنَجَاسَةِ سُؤْرَ سِبَاعِ الْوَحْشِ مِنْ الْبَهَائِمِ بَلْ الرُّطُوبَةَ النَّجِسَةَ فِي الْآلَةِ الَّتِي تُشْرَبُ بِهَا وَتِلْكَ الْعِلَّةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ فَلَمْ يَتَنَجَّسُ سُؤْرُهَا لِعَدَمِ عِلَّةٍ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ إنَّ الْمُسْتَحْسَنَ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ انْتَهَى.
[تَنْبِيهٌ قَسَّمَ الْمُصَحِّحُونَ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مَعَ الْمَانِعِ إلَى خَمْسَةٍ]
(تَنْبِيهٌ قَسَّمَ الْمُصَحِّحُونَ) لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ (مَعَ الْمَانِعِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الْمَوَانِعَ إلَى خَمْسَةٍ مَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ كَبَيْعِ الْحُرِّ) إذْ الْبَيْعُ عِلَّةُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي وَفِي الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ لَكِنْ وُجِدَ الْمَانِعُ مِنْ انْعِقَادِهِ عِلَّةً لِذَلِكَ هُنَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَهُوَ) أَيْ الْمَانِعُ مِنْ انْعِقَادِهَا فِيهِ (انْتِفَاءُ مَحَلِّهَا) وَهُوَ الْمَالُ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ بِالتَّرَاضِي وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ (وَلَا عِلَّةَ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ) فَهَذَا هُوَ الْمَانِعُ الْأَوَّلُ (وَ) مَا يَمْنَعُ (تَمَامَهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدِ) أَيْ فِي حَقِّ الْمَالِكِ (كَبَيْعِ عَبْدِ الْغَيْرِ) بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ بَيْعَهُ عِلَّةٌ (تَامَّةٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدِ) حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ إبْطَالِهِ (لَا) فِي حَقِّ (الْمَالِكِ) لِعَدَمِ وِلَايَةِ الْعَاقِدِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَلَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute