للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُطْمَئِنِّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ الْمُنْشَرِحِ صَدْرُهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَحَاكَ فِي صَدْرِهِ لِشُبْهَةٍ مَوْجُودَةٍ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُفْتِي فِيهِ بِالرُّخْصَةِ إلَّا مَنْ يُخْبِرُ عَنْ رَأْيِهِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَبِدِينِهِ بَلْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى فَهُنَا يَرْجِعُ الْمُؤْمِنُ إلَى مَا حَاكَ فِي صَدْرِهِ، وَإِنْ أَفْتَاهُ هَؤُلَاءِ الْمَفْتُون وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى مِثْلِ هَذَا اهـ.

بَقِيَ هَلْ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِ صِحَّةِ جَوَابِ الْمُفْتَى وَحَقِّيَّتِهِ فِي نَفْسِ الْمُسْتَفْتِي يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ؟ . فَذَهَبَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ إلَى أَنَّ أَوْلَى الْأَوْجُهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ لِغَيْرِهِ قُلْت وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ مُوَافِقٌ لِمَا فِي شَرْحِ الزَّاهِدِيِّ عَلَى مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَعَنْ أَحْمَدَ الْعِيَاضِيِّ الْعِبْرَةُ بِمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْتَفْتِي فَكُلُّ مَا اعْتَقَدَهُ مِنْ مَذْهَبٍ حَلَّ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ دِيَانَةً، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ خِلَافُهُ اهـ.

وَمَا فِي رِعَايَةِ الْحَنَابِلَةِ وَلَا يَكْفِيهِ مَنْ لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إلَيْهِ وَفِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ الْأَشْهَرُ يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ وَقِيلَ وَبِظَنِّهِ حَقًّا وَقِيلَ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ إنْ ظَنَّهُ حَقًّا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُفْتِيًا آخَرَ لَزِمَهُ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ اهـ. يَعْنِي وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى الْتِزَامِهِ وَلَا سُكُونِ نَفْسِهِ إلَى صِحَّتِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَذَكَرَ أَنَّهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَوَاعِدُ وَشَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لَا فِيمَا إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ وَلَا فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ كَمَا أَسْلَفْنَا ذَلِكَ عَنْهُ فِي ذَيْلِ مَسْأَلَةِ إفْتَاءِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ حَتَّى قَالَ لَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهَيْنِ أَعْنِي مُجْتَهِدَيْنِ فَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ الْأَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِمَا يَمِيلُ إلَيْهِ قَلْبُهُ مِنْهُمَا، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِقَوْلِ الَّذِي لَا يَمِيلُ إلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّ مَيْلَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، وَالْوَاجِبُ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ وَقَدْ فَعَلَ أَصَابَ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ أَوْ أَخْطَأَ اهـ.

لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى تَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّحَرِّي عَلَى الْمُسْتَفْتِي وَالْعَمَلَ بِمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ الصَّوَابُ فَيَحْتَاجُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى الْجَوَازِ بِدُونِهِ إلَى جَوَابٍ ثُمَّ فِي غَيْرِ مَا كِتَابٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمَذْهَبِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إنْ أَمْضَى قَوْلَ الْمُفْتِي لَزِمَهُ، وَإِلَّا فَلَا حَتَّى قَالُوا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ فَقِيهًا فَاسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِحَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَفْتَاهُ فَقِيهٌ آخَرُ بِخِلَافِهِ فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ وَأَمْضَاهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا أَمْضَاهُ فِيهِ وَيَرْجِعُ إلَى مَا أَفْتَاهُ بِهِ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نَقْضُ مَا أَمْضَاهُ مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ مُقَلِّدًا؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مُتَعَبِّدٌ بِالتَّقْلِيدِ كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُتَعَبِّدٌ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ كَمَا لَمْ يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ نَقْضُ مَا أَمْضَاهُ فَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلَّدِ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ وَاتِّصَالُ الْقَضَاءِ يَمْنَعُ النَّقْضَ فَكَذَا اتِّصَالُ الْإِمْضَاءِ هَذَا وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْعَلَائِيُّ أَنَّهُ قَدْ يُرَجَّحُ الْقَوْلُ بِالِانْتِقَالِ فِي أَحَدِ صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا إذَا كَانَ مَذْهَبُ غَيْرِ إمَامِهِ يَقْتَضِي تَشْدِيدًا عَلَيْهِ أَوْ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ كَمَا إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ ثُمَّ فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَكَانَ مَذْهَبُ إمَامِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحِنْثِ بِذَلِكَ فَأَقَامَ مَعَ زَوْجَتِهِ عَامِلًا بِهِ ثُمَّ تَخَرَّجَ مِنْهُ لِقَوْلِ مَنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْتِزَامِ الْحِنْثِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْقَصْرَ فِي سَفَرٍ جَاوَزَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ وَالْإِتْمَامَ فِيمَا إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَأَفْضَلُ احْتِيَاطًا لِلْخِلَافِ فِي ذَلِكَ.

وَالثَّانِيَةُ إذَا رَأَى لِلْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِمَذْهَبِ إمَامِهِ دَلِيلًا صَحِيحًا مِنْ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَجِدْ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ جَوَابًا قَوِيًّا عَنْهُ وَلَا مُعَارِضًا رَاجِحًا عَلَيْهِ إذْ الْمُكَلَّفُ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا شَرَعَهُ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ مِنْ تَقْلِيدِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُحَافَظَةً عَلَى مَذْهَبٍ الْتَزَمَ تَقْلِيدَهُ اهـ.

قُلْت وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا أَسْلَفْنَاهُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْقُدُورِيِّ وَعَلَيْهِ مَشَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ ابْنُ الصَّلَاحِ وَابْنُ حَمْدَانَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

[إجْمَاعُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى مَنْعِ الْعَوَامّ مِنْ تَقْلِيدِ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ]

(تَكْمِلَةُ نَقْلِ الْإِمَامِ) فِي الْبُرْهَانِ (إجْمَاعُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى مَنْعِ الْعَوَامّ مِنْ تَقْلِيدِ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ بَلْ مَنْ بَعْدَهُمْ) أَيْ بَلْ قَالَ: بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ (الَّذِينَ سَبَرُوا وَوَضَعُوا وَدَوَّنُوا) ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْضَحُوا طُرُقَ النَّظَرِ وَهَذَّبُوا الْمَسَائِلَ وَبَيَّنُوهَا وَجَمَعُوهَا بِخِلَافِ مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَنُوا بِتَهْذِيبِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يُقَرِّرُوا لِأَنْفُسِهِمْ أُصُولًا تَفِي بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا، وَإِلَّا فَهُمْ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ قَدْرًا، وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنِ سِيرِينَ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَحْسَنَ فِيهَا الْجَوَابَ فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ مَا مَعْنَاهُ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ لِتُحْسِنَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَقَالَ مُحَمَّدٌ لَوْ أَرَدْنَا فِقْهَهُمْ لَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>