للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَدْرَكَتْهُ عُقُولُنَا. (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَلِّدُوا الْأَئِمَّةَ الْمَذْكُورِينَ لِهَذَا الْوَجْهِ (مَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ) وَهُوَ ابْنُ الصَّلَاحِ (مَنَعَ تَقْلِيدَ غَيْرِ) الْأَئِمَّةِ (الْأَرْبَعَةِ) أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - (لِانْضِبَاطِ مَذَاهِبِهِمْ وَتَقْيِيدِ) مُطْلَقِ (مَسَائِلِهِمْ وَتَخْصِيصِ عُمُومِهَا) وَتَحْرِيرِ شُرُوطِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (وَلَمْ يُدْرَ مِثْلُهُ) أَيْ هَذَا الشَّيْءَ (فِي غَيْرِهِمْ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ (الْآنَ لِانْقِرَاضِ أَتْبَاعِهِمْ) . وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ امْتَنَعَ تَقْلِيدُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ؛ لِتَعَذُّرِ نَقْلِ حَقِيقَةِ مَذْهَبِهِمْ؛ وَعَدَمِ ثُبُوتِهِ حَقَّ الثُّبُوتِ لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ إنْ تَحَقَّقَ ثُبُوتُ مَذْهَبٍ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ تَقْلِيدُهُ وِفَاقًا، وَإِلَّا فَلَا وَقَالَ أَيْضًا إذَا صَحَّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَذْهَبٌ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ أَوْضَحَ مِنْ دَلِيلِهِ هَذَا وَقَدْ تَعَقَّبْ بَعْضُهُمْ أَصْلَ الْوَجْهِ لِهَذَا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سَبْرِ هَؤُلَاءِ كَمَا ذَكَرَ وُجُوبُ تَقْلِيدِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ جَمَعَ وَسَبَرَ كَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ وَلَا يَلْزَمُ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِمْ بَلْ الظَّاهِرُ فِي تَعْلِيلِهِ فِي الْعَوَامّ أَنَّهُمْ لَوْ كُلِّفُوا تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ لَكَانَ فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعْطِيلِ مَعَايِشِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى، وَأَيْضًا كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ يَتَطَرَّقُ إلَى مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ احْتِمَالَاتٌ لَا يَتَمَكَّنُ الْعَامِّيُّ مَعَهَا مِنْ التَّقْلِيدِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْإِسْنَادُ إلَى الصَّحَابِيِّ لَا عَلَى شُرُوطِ الصِّحَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ.

وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةُ الْعَامِّيِّ لَيْسَتْ الْوَاقِعَةَ الَّتِي أَفْتَى فِيهَا الصَّحَابِيُّ وَهُوَ ظَانٌّ أَنَّهَا هِيَ؛ لِأَنَّ تَنْزِيلَ الْوَقَائِعِ عَلَى الْوَقَائِعِ مِنْ أَدَقِّ وُجُوهِ الْفِقْهِ وَأَكْثَرِهَا غَلَطًا وَبِالْجُمْلَةِ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَتَأَهَّلُ لِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ قَرِيبٌ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَهَّلُ لِلْعَمَلِ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ إمَّا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِقَوْلِ الشَّارِعِ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ فِي عُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ يَكَادُ يَكُونُ حُجَّةً فَامْتِنَاعُ تَقْلِيدِهِ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ لَا لِنُزُولِهِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْمَذْكُورُ (صَحِيحٌ) بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ مَذْهَبٌ مُدَوَّنٌ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ بِحَيْثُ يَأْخُذُ بِأَقْوَالِهِ كُلِّهَا وَيَدْعُ أَقْوَالَ غَيْرِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا.

وَمِنْ هُنَا قَالَ الْقَرَافِيُّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِغَيْرِ حَجْرٍ، وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ مَنْ اسْتَفْتَى أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ وَقَلَّدَهُمَا فَلَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَغَيْرَهُمَا وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِمَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَمَنْ ادَّعَى دَفْعَ هَذَيْنِ الْإِجْمَاعَيْنِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. هَذَا وَقَدْ تَكَلَّمَ أَتْبَاعُ الْمَذَاهِبِ فِي تَفْضِيلِ أَئِمَّتِهِمْ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَأَحَقُّ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَتْ أُمُّ الْكَمَلَةِ عَنْ بَنِيهَا: ثَكِلْتُهُمْ إنْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَيَّهُمْ أَفْضَلَ هُمْ كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا فَمَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا تَجَرَّدَ النَّظَرُ إلَى خَصَائِصِهِ إلَّا وَيَفْنَى الزَّمَانُ لِنَاشِرِهَا دُونَ اسْتِيعَابِهَا، وَهَذَا سَبَبُ هُجُومِ الْمُفَضِّلِينَ عَلَى التَّعْيِينِ فَإِنَّهُ لِغَلَبَةِ ذَلِكَ عَلَى الْمُفَضِّلِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ فَضْلَةٌ لِتَفْضِيلِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَإِلَى ضِيقِ الْأَذْهَانِ عَنْ اسْتِيعَابِ خَصَائِصِ الْمُفَضَّلِينَ جَاءَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: ٤٨] يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ كُلَّ آيَةٍ إذَا جُرِّدَ النَّظَرُ إلَيْهَا قَالَ النَّاظِرُ هِيَ أَكْبَرُ الْآيَاتِ، وَإِلَّا فَمَا يُتَصَوَّرُ فِي آيَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَكْبَرَ مِنْ الْأُخْرَى بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، وَإِلَّا لَتَنَاقَضَ الْأَفْضَلِيَّةُ وَالْمَفْضُولِيَّة.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ انْخَرَقَتْ بِهِمْ الْعَادَةُ عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ عِنَايَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ إذَا قِيسَتْ أَحْوَالُهُمْ بِأَحْوَالِ أَقْرَانِهِمْ ثُمَّ اشْتِهَارُ مَذَاهِبِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ وَاجْتِمَاعُ الْقُلُوبِ عَلَى الْأَخْذِ بِهَا دُونَ مَا سِوَاهَا إلَّا قَلِيلًا عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ مِمَّا يَشْهَدُ بِصَلَاحِ طَوِيَّتِهِمْ وَجَمِيلِ سَرِيرَتِهِمْ وَمُضَاعَفَةِ مَثُوبَتِهِمْ وَرِفْعَةِ دَرَجَتِهِمْ - تَغَمَّدَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَأَعْلَى مَقَامَهُمْ فِي بُحْبُوحَةِ جَنَّتِهِ وَحَشَرَنَا مَعَهُمْ فِي زُمْرَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعِتْرَتِهِ وَصَحَابَتِهِ وَأَدْخَلَنَا وَصُحْبَتَهُمْ دَارَ كَرَامَتِهِ.

[خَاتِمَة]

وَقَدْ خَتَمَ الْمُصَنِّفُ الْكِتَابَ بِقَوْلِهِ صَحِيحٌ تَفَاؤُلًا بِصِحَّتِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَى وَلَهُ الْحَمْدُ سُبْحَانَهُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي أَنْ يُؤْتِيَ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا وَيُزْكِيَهَا إنَّهُ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا إنَّهُ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا وَأَنْ يَقِيَهَا شُرُورَهَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِهَا وَوَخِيمَ هَوَاهَا وَأَنْ يُحْسِنَ لَنَا فِي الدَّارَيْنِ الْعَوَاقِبَ وَيَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا فِيهِمَا بِجَمِيلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>