يَكُونُونَ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِي ثَبَتَ بِنَصِّ الْبَعْضِ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّقْرِيرِ دُونَ النَّصِّ، ثُمَّ إجْمَاعُ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ عَلَى حُكْمٍ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَوْلُ مَنْ سَبَقَهُمْ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا خُلَفَاءَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَانُوا خُلَفَاءَ الصَّحَابَةِ فَيَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُلَفَائِهِمْ مِنْ التَّفَاوُتِ فَوْقَ مَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «خَيْرُ النَّاسِ رَهْطِي الَّذِينَ أَنَا فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُوَا الْكَذِبُ» فَرَتَّبَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَرَاتِبَ فِي الْخَيْرِيَّةِ فَكَذَلِكَ نَحْنُ نُرَتِّبُهُمْ فِي كَوْنِهِمْ حُجَّةً؛ لِأَنَّهَا نِهَايَةُ مَا تَنْتَهِي إلَيْهِ صِفَةُ الْخَيْرِيَّةِ، ثُمَّ إجْمَاعُهُمْ عَلَى حُكْمٍ سَبَقَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ؛ لِأَنَّ هَذَا فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا لَا يَكُونُ إجْمَاعًا اهـ وَعَلَى هَذَا دَرَجَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ الْإِجْمَاعِ يُحْتَجُّ بِهِ فِيمَا لَا يَتَوَقَّفُ حُجِّيَّتُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ]
(مَسْأَلَةٌ: يُحْتَجُّ بِهِ) أَيْ الْإِجْمَاعِ (فِيمَا لَا يَتَوَقَّفُ حُجِّيَّتُهُ) أَيْ الْإِجْمَاعِ (عَلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ) سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ (عَقْلِيًّا كَالرُّؤْيَةِ) لِلَّهِ تَعَالَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ (لَا فِي جِهَةٍ وَنَفْيِ الشَّرِيكِ) لِلَّهِ تَعَالَى (وَلِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ) وَهُوَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (فِي الْعَقْلِيِّ) أَيْ مَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ (مُفِيدُهُ الْعَقْلُ لَا الْإِجْمَاعُ) لِاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِإِفَادَةِ الْيَقِينِ وَمَشَى عَلَى هَذَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَفِي بُرْهَانِهِ وَلَا أَثَرَ لِلْإِجْمَاعِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ فَإِنَّ الْمُتَّبَعَ فِيهَا الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ فَإِذَا انْتَصَبَتْ لَمْ يُعَارِضْهَا شِقَاقٌ وَلَمْ يُعَضِّدْهَا وِفَاقٌ وَتَعَقَّبَهُ، فَفِي التَّلْوِيحِ بِأَنَّ الْعَقْلِيَّ قَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا فَبِالْإِجْمَاعِ يَصِيرُ قَطْعِيًّا كَمَا فِي تَفْضِيلِ الصَّحَابَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الِاعْتِقَادِيَّات وَدُفِعَ بِأَنَّ الْعَقْلَ إنْ حَكَمَ بِهِ فَلَا يَكُونُ ظَنِّيًّا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ إلَّا أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ ظَنٌّ بِهِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِالْعَقْلِ بَلْ بِالْإِجْمَاعِ (أَوْ لَا) أَيْ أَوْ غَيْرَ عَقْلِيٍّ (كَالْعِبَادَاتِ) أَيْ كَوُجُوبِهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ (وَفِي الدُّنْيَوِيَّةِ كَتَرْتِيبِ أُمُورِ الرَّعِيَّةِ وَالْعِمَارَاتِ وَتَدْبِيرِ الْجُيُوشِ قَوْلَانِ لِعَبْدِ الْجَبَّارِ) مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَحَدُهُمَا وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّهُ الصَّحِيحُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ إنَّمَا هُوَ حُجَّةٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ دُونَ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ وَأَنَا أَعْلَمُ بِأُمُورِ دِينِكُمْ» وَكَانَ إذَا رَأَى رَأْيًا فِي الْحَرْبِ يُرَاجِعُهُ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ وَرُبَّمَا تَرَكَ رَأْيَهُ بِرَأْيِهِمْ كَمَا وَقَعَ فِي حَرْبِ بَدْرٍ وَالْخَنْدَقِ، ثَانِيهمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَالْآمِدِيِّ وَأَتْبَاعِهِمَا وَمَشَى عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَنَصَّ فِي الْبِدَايَةِ عَلَى أَنَّهُ الْمُخْتَارُ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْمُخْتَارُ حُجَّةٌ إنْ كَانَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ) ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ عَلَى حُجِّيَّتِهِ لَا تُفَصَّلُ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ إنْ كَانَ عَنْ وَحْيٍ فَهُوَ الصَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ عَنْ رَأْيٍ وَكَانَ خَطَأً فَهُوَ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ وَيَظْهَرُ الصَّوَابُ بِالْوَحْيِ أَوْ بِإِشَارَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيُقَرُّ عَلَيْهِ وَالْإِجْمَاعُ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَفِي الْمِيزَانِ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ إجْمَاعًا هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي كَمَا فِي الْإِجْمَاعِ فِي أُمُورِ الدِّينِ أَمْ لَا؟ إنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحَالُ يَجِبُ، وَإِنْ تَغَيَّرَ لَا يَجِبُ وَتَجُوزُ الْمُخَالَفَةُ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَوِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَاجِلَةِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ الزَّوَالَ سَاعَةً فَسَاعَةً (بِخِلَافِهِ) أَيْ الْإِجْمَاعِ (عَلَى) حِسِّيٍّ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ (الْمُسْتَقْبَلَاتِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ لَا يُعْتَبَرُ إجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إجْمَاعٌ) عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ (بَلْ) يُعْتَبَرُ (مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْقُولٌ) عَمَّنْ يُوقَفُ عَلَى الْمَغِيبِ فَرَجَعَ إلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارَاتِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ الْمَخْصُوصِ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الِاجْتِهَادُ كَذَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَكَأَنَّ لِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (كَذَا لِلْحَنَفِيَّةِ) وَتَعَقَّبَهُ فِي التَّلْوِيحِ بِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ قَدْ يَكُونُ مِمَّا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ الْمُخْبِرُ الصَّادِقُ بَلْ اسْتَنْبَطَهُ الْمُجْتَهِدُونَ مِنْ نُصُوصِهِ فَيُفِيدُ الْإِجْمَاعُ قَطْعِيَّتَهُ وَدُفِعَ بِأَنَّ الْحِسِّيَّ الِاسْتِقْبَالِيَّ لَا مَدْخَلَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ فَإِنْ وَرَدَ بِهِ نَصٌّ فَهُوَ ثَابِتٌ بِهِ وَلَا احْتِيَاجَ إلَى الْإِجْمَاعِ.
وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ فَلَا مَسَاغَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ وَلَا يُتَمَسَّكُ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ كَوُجُودِ الْبَارِئِ تَعَالَى وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ وَدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ لِلُزُومِ الدَّوْرِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ الْمَوْقُوفِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute