{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: ٢٣٤] كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَحْثِ التَّخْصِيصِ (وَهُمَا) أَيْ نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ (مَعًا قَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ) مَعْلُومَاتٍ (يُحَرِّمْنَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (قَالُوا) أَيْ مَانِعُو نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ أَوَّلًا (التِّلَاوَةُ مَعَ مُفَادِهَا) مِنْ الْحُكْمِ فِي دَلَالَتِهِمَا عَلَيْهِ (كَالْعِلْمِ مَعَ الْعَالَمِيَّةِ وَالْمَنْطُوقِ مَعَ الْمَفْهُومِ) وَكَمَا لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ لَا يَنْفَكُّ الْحُكْمُ عَنْ التِّلَاوَةِ وَلَا التِّلَاوَةُ عَنْ الْحُكْمِ.
وَلَمَّا أَجَابَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ الْعَالَمِيَّةَ مِنْ الْأَحْوَالِ يَعْنِي الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةَ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ وَلَا مَعْدُومَةٍ قَائِمَةٌ بِمَوْجُودٍ وَتَمَامُ هَذَا فَرْعُ ثُبُوتِ الْحَالِ وَالْحَقُّ عِنْدَنَا نَفْيُ الْحَالِ وَإِنْ قَالَ بِثُبُوتِهِ بَعْضٌ مِنَّا كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَرَأَى الْمُصَنِّفُ أَنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمِثَالِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّ التِّلَاوَةَ وَهِيَ اللَّفْظُ مَلْزُومٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَاهُ فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْمَلْزُومِ بِلَا لَازِمِهِ غَيْرَ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا ذَلِكَ مَثَلًا فَبُطْلَانُهُ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ أَشَارَ إلَى هَذَا وَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ الْجَوَابِ فَقَالَ (وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ) أَيْ الْمَتْلُوَّ (مَلْزُومٌ) لِمَعْنَاهُ (فَلَا يَضُرُّهُ) أَيْ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ (مَنْعُ ثُبُوتِ الْأَحْوَالِ وَالْجَوَابُ إنْ قُلْت) الْمَتْلُوُّ (مَلْزُومُ الثُّبُوتِ) أَيْ ثُبُوتِ مَعْنَاهُ (ابْتِدَاءً سَلَّمْنَاهُ وَلَا يُفِيدُ) ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِيهِ (أَوْ) مَلْزُومُ الثُّبُوتِ (بَقَاءُ مَعْنَاهُ) إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ الثُّبُوتِ ابْتِدَاءُ الثُّبُوتِ بَقَاءً (وَالْكَلَامُ فِيهِ) أَيْ فِي ثُبُوتِهِ بَقَاءً (قَالُوا) أَيْ الْمَانِعُونَ ثَانِيًا (بَقَاءُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ يُوهِمُ بَقَاءَهُ) أَيْ الْحُكْمِ لِكَوْنِ التِّلَاوَةِ دَلِيلَهُ وَبَقَاءُ الدَّلِيلِ مُوهِمٌ بَقَاءَ الْمَدْلُولِ (فَيُوقَعُ) بَقَاؤُهَا دُونَ الْمُكَلَّفِ (فِي الْجَهْلِ) لِظَنِّهِ بَقَاءَ الْحُكْمِ وَهُوَ لَيْسَ بِبَاقٍ فِي الْحَالِ وَالْإِيقَاعُ فِي الْجَهْلِ قَبِيحٌ فَلَا يَقَعُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
(وَأَيْضًا فَائِدَةُ إنْزَالِهِ) أَيْ الْقُرْآنِ (إفَادَتُهُ) أَيْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي دَلَّتْ التِّلَاوَةُ عَلَيْهِ (وَتَنْتَفِي) إفَادَتُهَا الْحُكْمَ (بِبَقَائِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (دُونَهَا) أَيْ التِّلَاوَةِ، وَالْكَلَامُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهُ (أُجِيبُ مَبْنَاهُ) أَيْ كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ (عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ) الْعَقْلِيَّيْنِ وَقَدْ نَفَاهُمَا الْأَشَاعِرَةُ (وَلَوْ سُلِّمَ) الْقَوْلُ بِهِمَا (فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْإِيقَاعُ) فِي الْجَهْلِ عَلَى تَقْدِيرِ نَسْخِ الْحُكْمِ لَا التِّلَاوَةِ (لَوْ لَمْ يُنْصَبُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَدَمِ بَقَاءِ الْحُكْمِ لَكِنَّهُ نُصِبَ عَلَيْهِ فَالْمُجْتَهِدُ يَعْلَمُهُ بِالدَّلِيلِ، وَالْمُقَلِّدُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ فَيَنْتَفِي التَّجْهِيلُ (وَيُمْنَعُ حَصْرُ فَائِدَتِهِ) فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ (بَلْ) إنْزَالُهُ لِفَوَائِدَ لِمَا ذَكَرْتُمْ وَأَيْضًا (لِلْإِعْجَازِ وَلِثَوَابِ التِّلَاوَةِ أَيْضًا وَقَدْ حَصَلَتَا) أَيْ هَاتَانِ الْفَائِدَتَانِ؛ لِأَنَّ الْإِعْجَازَ لَا يَنْتَفِي بِنَسْخِ تَعَلُّقِ حُكْمِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ وَالْأَعْجَازُ تَابِعٌ لِوُجُودِهِ لَا لِمُجَرَّدِ قُرْآنِيَّتِهِ وَالثَّوَابُ يَحْصُلُ بِتِلَاوَتِهِ كَمَا قَبْلَ النَّسْخِ (كَالْفَائِدَةِ الَّتِي عَيَّنْتُمُوهَا) أَيْ كَمَا حَصَلَتْ إفَادَةُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَيَسْتَتْبِعُ بَقَاءَهُ لَفْظًا أَيْضًا حُرْمَةُ ذِكْرِهِ عَلَى الْجُنُبِ وَجَوَازُ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةُ مَسِّ رَسْمِهِ لِلْمُحْدِثِ كَالْمُتَشَابِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرَتُّبِ فَائِدَةِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ بَقَاؤُهَا (وَإِلَّا انْتَفَى النَّسْخُ بَعْدَ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ تَكَرُّرُهُ) لِعَدَمِ بَقَاءِ فَائِدَتِهِ الَّتِي هِيَ وُجُوبُ تَكَرُّرِهِ دَائِمًا وَهُوَ بَاطِلٌ.
[مَسْأَلَةٌ لَا يُنْسَخُ الْإِجْمَاعُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ]
(مَسْأَلَةٌ لَا يُنْسَخُ الْإِجْمَاعُ) الْقَطْعِيُّ أَيْ لَا يُدْفَعُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِهِ (وَلَا يُنْسَخُ بِهِ) غَيْرُهُ (أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ أَنَّهُ لَا يُنْسَخُ (فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ) أَيْ وُجِدَ رَفْعُ حُكْمِهِ (فَبِنَصٍّ قَاطِعٍ أَوْ إجْمَاعٍ) قَاطِعٍ (وَالْأَوَّلُ) أَيْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِنَصٍّ قَاطِعٍ (يَسْتَلْزِمُ خَطَأَ قَاطِعِ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْإِجْمَاعَ حِينَئِذٍ (خِلَافُ الْقَاطِعِ) الَّذِي هُوَ النَّصُّ وَخِلَافُهُ خَطَأٌ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ قَطْعًا وَعَدَمِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ الْقَاطِعِ
(وَالثَّانِي) أَيْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِالْإِجْمَاعِ يَسْتَلْزِمُ (بُطْلَانَ أَحَدِهِمَا) أَيْ الْإِجْمَاعَيْنِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِلَافِ إجْمَاعٍ آخَرَ فَأَحَدُ الْإِجْمَاعَيْنِ سَاقِطٌ بِالضَّرُورَةِ وَلَمَّا امْتَنَعَ بُطْلَانُ الْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ كَانَ الْإِجْمَاعُ الْآخَرُ وَهُوَ مَا فُرِضَ نَسْخُهُ غَيْرَ قَاطِعٍ وَبَاطِلٍ، وَعَلَى الْخَطَأِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَيْسَ) هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِ نَسْخِ الْإِجْمَاعِ بِكُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ (بِشَيْءٍ) مَانِعٍ مِنْ نَسْخِهِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا (لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُوجِبُ خَطَأَ الْأَوَّلِ وَإِلَّا) لَوْ كَانَ النَّسْخُ يُوجِبُ خَطَأَ الْمَنْسُوخِ (امْتَنَعَ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute