مِنْ مُخْتَصَرَاتِ الْفِقْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ، وَرُجُوعُ الْعَامِّيِّ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ سِوَاهُ أَوْلَى مِنْ الِارْتِبَاكِ فِي الْحِيرَةِ، وَكُلُّ هَذَا فِيمَنْ لَمْ يَنْقُلْ عَنْ غَيْرِهِ. أَمَّا النَّاقِلُ فَلَا يُمْنَعُ فَإِذَا ذَكَرَ الْعَامِّيُّ أَنَّ فُلَانًا الْمُفْتِي أَفْتَانِي بِكَذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ نَقْلِ هَذَا الْقَدْرِ اهـ. لَكِنْ لَيْسَ لِلْمَذْكُورِ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى مَا فِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ لَا يَجُوزُ لِعَامِّيٍّ أَنْ يَعْمَلَ بِفَتْوَى مُفْتٍ لِعَامِّيٍّ مِثْلِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ]
(مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ) فِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي وَأَبِي الْخَطَّابِ وَصَاحِبِ الرَّوْضَةِ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ (وَأَحْمَدُ) فِي رِوَايَةٍ (وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ) كَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالِ وَالْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ (عَلَى الْمَنْعِ) وَقِيلَ يَجُوزُ لِمَنْ يَعْتَقِدُهُ فَاضِلًا أَوْ مُسَاوِيًا ثُمَّ الْخِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُطْرِ الْوَاحِدِ لَا إلَى أَهْلِ الدُّنْيَا إذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ أَفْضَلِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ نَائِيًا عَنْ إقْلِيمِهِ ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي بَحْرِهِ (لِلْأَوَّلِ) أَيْ مُجِيزِي تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ (الْقَطْعُ) فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ (بِاسْتِفْتَاءِ كُلِّ صَحَابِيٍّ مَفْضُولٍ) مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ (بِلَا نَكِيرٍ عَلَى الْمُسْتَفْتِي) فَكَانَ إجْمَاعًا، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْآمِدِيُّ: لَوْلَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْجَوَازِ لَكَانَ الْأَوْلَى مَذْهَبَ الْخَصْمِ، وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ أَنَّ الْكُلَّ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَهُوَ) أَيْ كَوْنُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى تَمَامِ الْمَطْلُوبِ (مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَوْنِهِ) أَيْ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ (كَانَ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكُلِّ فَإِنَّهُ) أَيْ هَذَا (مِنْ صُوَرِهَا) أَيْ مَسْأَلَةُ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ، وَثُبُوتُ هَذَا لَيْسَ بِالسَّهْلِ.
(وَاسْتُدِلَّ) لِلْأَوَّلِ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَوْ كُلِّفَ هَذَا لَكَانَ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ (بِتَعَذُّرِ التَّرْجِيحِ لِلْعَامِّيِّ) ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ فَرْعُ الْمَعْرِفَةِ، وَمَبْلَغُ عِلْمِهِ إنَّمَا يَعْرِفُ ذَا الْفَضْلِ مِنْ النَّاسِ ذَوُوهُ (أُجِيبُ بِأَنَّهُ) أَيْ التَّرْجِيحَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ مِنْ الْعَامِّيِّ؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ (بِالتَّسَامُعِ) مِنْ النَّاسِ وَبِرُجُوعِ الْعُلَمَاءِ إلَيْهِ وَعَدَمِ رُجُوعِهِ إلَيْهِمْ وَكَثْرَةِ الْمُسْتَفْتِينَ وَتَقْدِيمِ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ لَهُ. وَقَالَ (الْمَانِعُونَ) مِنْ جَوَازِهِ: (أَقْوَالُهُمْ) أَيْ الْمُجْتَهِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقَلِّدِ (كَالْأَدِلَّةِ) الْمُتَعَارِضَةِ (لِلْمُجْتَهِدِ) فَلَا يُصَارُ إلَى أَحَدِهَا تَحَكُّمًا كَمَا لَا يُصَارُ إلَى بَعْضِ الْأَدِلَّةِ تَحَكُّمًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّرْجِيحِ (فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ) وَمَا التَّرْجِيحُ إلَّا بِكَوْنِ قَائِلِهِ أَفْضَلَ اتِّفَاقًا (أُجِيبُ) بِأَنَّ هَذَا قِيَاسٌ (لَا يُقَاوِمُ مَا ذَكَرْنَا) مِنْ الْإِجْمَاعِ لِتَقْدِيمِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْقِيَاسِ بِالْإِجْمَاعِ. (وَعَلِمْت مَا فِيهِ) مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى تَمَامِ الْمَطْلُوبِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكُلِّ (وَتَعَسُّرِهِ) أَيْ التَّرْجِيحِ (عَلَى الْعَامِّيِّ) بِخِلَافِهِ لِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ (وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ) أَيْ التَّرْجِيحَ (إذَا كَانَ بِالتَّسَامُعِ لَا عُسْرَ عَلَيْهِ) أَيْ الْعَامِّيِّ فِيهِ (وَكَوْنُ الِاجْتِهَادِ الْمُنَاطِ) لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ (لَا يُفِيدُ) وَهُوَ أَنْ لَا يُوجَدَ أَفْضَلُ مِنْهُ (لَنَا مَنْعُهُ عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْمَفْضُولِ الْكُلَّ) فَيَتَرَجَّحُ الْمَنْعُ عَلَى الْجَوَازِ. هَذَا وَقَدْ ظَهَرَ عَلَى الْقَوْلِ بِتَعَيُّنِ تَقْلِيدِ الْأَفْضَلِ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ أَمَارَاتِهِ لَا الْأَفْضَلُ فِي مُجَرَّدِ ظَنِّهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى أَمَارَةٍ عَلَى ذَلِكَ، نَعَمْ نَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ لَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَحَدَهُمْ أَعْلَمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْأَعْلَمِ إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمْ بِزِيَادَةِ عِلْمٍ فَهَذَا يُفِيدُ عَلَى الْقَوْلِ بِتَعَيُّنِ تَقْلِيدِ الْأَفْضَلِ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ اعْتِقَادًا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِأَمَارَةٍ لَكِنْ لَعَلَّ هَذَا مِنْهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ أَمَارَةٌ لِأَفْضَلِيَّةِ أَحَدِهِمْ عَلَى الْبَاقِينَ، وَإِلَّا فَلَوْ قَامَتْ أَمَارَةٌ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ وَكَانَ مُعْتَقِدًا فِي غَيْرِهِ الْأَفْضَلِيَّةَ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ عَلَيْهَا فَتَقْدِيمُ ذَا عَلَى ذَاكَ لَيْسَ بِمُتَّجَهٍ بَلْ الْمُتَّجَهُ الْعَكْسُ فَلَا جَرَمَ أَنْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِيمَا لَوْ اسْتَفْتَى أَحَدَهُمْ وَاسْتَبَانَ أَنَّهُ الْأَعْلَمُ وَالْأَوْثَقُ لَزِمَهُ بِنَاءً عَلَى تَقْلِيدِ الْأَفْضَلِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ اهـ.
وَقِيلَ: الْحَقُّ أَنْ تَرَجُّحَ الْمَفْضُولِ بِدِيَانَةٍ وَوَرَعٍ وَتَحَرٍّ لِلصَّوَابِ وَعَدَمِ ذَلِكَ الْفَاضِلِ فَاسْتِفْتَاءُ الْمَفْضُولِ جَائِزٌ إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَاسْتِفْتَاءُ الْأَعْلَمِ أَوْلَى، وَلَوْ اسْتَوَيَا عِلْمًا وَتَفَاوَتَا وَرَعًا فَقِيلَ وَجَبَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَوْرَعِ قُلْت وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ لِزِيَادَةِ الْوَرَعِ تَأْثِيرًا فِي الِاحْتِيَاطِ، وَإِنْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا فِي الْعِلْمِ وَالْآخَرُ فِي الْوَرَعِ فَالْأَرْجَحُ عَلَى مَا ذَكَرَ الرَّازِيّ وَنَصَّ السُّبْكِيُّ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَعْلَمِ؛ لِأَنَّ لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ تَأْثِيرًا فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute