الِاجْتِهَادِ فَيَكُونُ الظَّنُّ الْحَاصِلُ بِقَوْلِهِ أَكْثَرَ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْوَرَعِ، وَقِيلَ: يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْأَوْرَعِ، وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ التَّسَاوِيَ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مُرَجَّحًا فَيَتَخَيَّرُ وَلَوْ تَسَاوَيَا عِلْمًا وَوَرَعًا فَفِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ قُدِّمَ الْأَسَنُّ؛ لِأَنَّهُ الْأَقْرَبُ إلَى الْإِصَابَةِ بِطُولِ الْمُمَارَسَةِ اهـ. قُلْت وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ التَّقْدِيمَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ التَّخْيِيرَ فِي اسْتِوَائِهِمْ، وَفِي الْمَحْصُولِ، وَإِنْ ظَنَّ اسْتِوَاءَهُمَا مُطْلَقًا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ لِتَعَارُضِ أَمَارَتَيْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِوُقُوعِهِ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ لَا يَرْجِعُ الْمُقَلِّدُ فِيمَا قَلَّدَ الْمُجْتَهِدَ]
(مَسْأَلَةٌ: لَا يَرْجِعُ الْمُقَلِّدُ فِيمَا قَلَّدَ) الْمُجْتَهِدَ (فِيهِ أَيْ عَمِلَ بِهِ اتِّفَاقًا) ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ لَكِنْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَا فَفِي كَلَامِ غَيْرِهِمَا مَا يَقْتَضِي جَرَيَانَ الْخِلَافِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَيْضًا وَكَيْفَ يَمْتَنِعُ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ. لَكِنْ وَجْهُ مَا قَالَاهُ أَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ مَذْهَبَ إمَامٍ مُكَلَّفٍ بِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ غَيْرُهُ، وَالْعَامِّيُّ لَا يَظْهَرُ لَهُ بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ حَيْثُ يَنْتَقِلُ مِنْ أَمَارَةٍ إلَى أَمَارَةٍ، وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: التَّقْلِيدُ بَعْدَ الْعَمَلِ إنْ كَانَ مِنْ الْوُجُوبِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَتْرُكَ كَالْحَنَفِيِّ يُقَلِّدُ فِي الْوِتْرِ أَوْ مِنْ الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَتْرُكَ كَالشَّافِعِيِّ يُقَلِّدُ فِي أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ جَائِزٌ، وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ لَا يُنَافِي الْإِبَاحَةَ، وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ خَارِجٌ عَنْ الْعَمَلِ، وَحَاصِلٌ قَبْلَهُ فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ التَّقْلِيدِ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ الْإِبَاحَةَ يُقَلِّدُ فِي الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ، فَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَبْعَدُ وَلَيْسَ فِي الْعَامِّيِّ إلَّا هَذِهِ الْأَقْسَامُ نَعَمْ الْمُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ إذَا أَفْتَى بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ حَرَامًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ وَيُفْتِيَ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَحْضُ تَشَهِّي كَذَا اهـ. قُلْت: وَالتَّوْجِيهُ الْمَذْكُورُ سَاقِطٌ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْعَامِّيِّ الَّذِي لَمْ يَلْتَزِمْ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا كَمَا يُفْصِحُ بِهِ لَفْظُ الْآمِدِيِّ ثُمَّ ذَكَرَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا عَلَى أَنَّ الِالْتِزَامَ غَيْرُ لَازِمٍ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَتَعْلَمُ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيُّ: ثُمَّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُخَصَّصًا بِحَالَةِ الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ إذْ لَا يُمْنَعُ فَقِيهٌ مِنْ الرُّجُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ.
قُلْت: وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي فَصْلِ التَّعَارُضِ أَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا فِي الْقِيَاسَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَاحْتِيجَ إلَى الْعَمَلِ: يَجِبُ التَّحَرِّي فِيهِمَا فَإِذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ الصَّوَابَ أَحَدُهُمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِذَا عَمِلَ بِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بَعْدَهُ بِالْآخَرِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ خَطَأُ الْأَوَّلِ وَصَوَابُ الْآخَرِ فَحِينَئِذٍ يَعْمَلُ بِالثَّانِي أَمَّا إذَا لَمْ يَظْهَرْ خَطَأُ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ أَحَدُهُمَا وَعَمِلَ بِهِ وَصَحَّ الْعَمَلُ حُكِمَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ وَأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ ظَاهِرٌ أَوْ بِبُطْلَانِ الْآخَرِ، وَأَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ مَعَهُ ظَاهِرًا مِمَّا لَمْ يَرْتَفِعْ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ سِوَى مَا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَمَلِ بِهِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَصِيرَ إلَى الْعَمَلِ بِالْآخَرِ فَعَلَى قِيَاسِ هَذَا إذَا تَعَارَضَ قَوْلَا مُجْتَهِدَيْنِ يَجِبُ التَّحَرِّي فِيهِمَا فَإِذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ الصَّوَابَ أَحَدُهُمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِذَا عَمِلَ بِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْآخَرِ إلَّا إذَا ظَهَرَ خَطَأُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ تَعَارُضَ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقَلِّدِ كَتَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ وَسَتَسْمَعُ عَنْهُمْ أَيْضًا مَا يَشُدُّهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَهَلْ يُقَلِّدُ غَيْرَهُ) أَيْ غَيْرَ مَنْ قَلَّدَهُ أَوَّلًا فِي شَيْءٍ (فِي غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ؟ . كَأَنْ يَعْمَلَ أَوَّلًا فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَثَانِيًا فِي أُخْرَى بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ (الْمُخْتَارُ) كَمَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ (نَعَمْ لِلْقَطْعِ) بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ (بِأَنَّهُمْ) أَيْ الْمُسْتَفْتِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا (كَانُوا يَسْتَفْتُونَ مَرَّةً وَاحِدًا وَمَرَّةً غَيْرَهُ غَيْرَ مُلْتَزِمِينَ مُفْتِيًا وَاحِدًا) وَشَاعَ وَتَكَرَّرَ وَلَمْ يُنْكَرْ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَلْتَزِمْ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا. (فَلَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا كَأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ الشَّافِعِيِّ) فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ (فَقِيلَ يَلْزَمُ) ؛ لِأَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ يَصِيرُ مُلْزَمًا بِهِ كَمَا لَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبَهُ فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي انْتَسَبَ إلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمُوجَبِ اعْتِقَادِهِ. (وَقِيلَ لَا) يَلْزَمُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا فِي الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ إذْ لَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ رَجُلٍ مِنْ الْأُمَّةِ فَيُقَلِّدَهُ فِي دِينِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي وَيَذَرَ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ قَالَ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِحَاكِمٍ وَلَا مُفْتٍ تَقْلِيدُ رَجُلٍ فَلَا يَحْكُمُ وَلَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute