الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
[مَسْأَلَةٌ تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ التَّعْرِيضِ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ]
(مَسْأَلَةٌ) تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ التَّعْرِيضِ (فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ الْمُخْتَارُ جَوَازُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُجْتَهِدِ: اُحْكُمْ بِمَا شِئْت بِلَا اجْتِهَادٍ، فَإِنَّهُ صَوَابٌ) أَيْ مُوَافِقٌ لِحُكْمِي بِأَنْ يُلْهِمَهُ إيَّاهُ وَيَكُونَ حُكْمُهُ إذْ ذَاكَ مِنْ الْمَدَارِكِ الشَّرْعِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ: هَذَا حَلَالٌ تَعْرِيفًا لَنَا بِأَنَّ اللَّهَ حَكَمَ فِي الْأَزَلِ بِحِلِّهِ لَا أَنَّهُ يُنْشِئُ الْحُكْمَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُجْتَهِدِ مُوَافِقٌ لِلْآمِدِيِّ وَاِبْنِ الْحَاجِبِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالْعَالِمِ، وَالنَّبِيِّ كَالْبَيْضَاوِيِّ وَالسُّبْكِيِّ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ، وَإِنْ عَمَّ النَّبِيَّ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْعَالِمِ ثُمَّ عَلَى كُلٍّ يَخْرُجُ الْعَامِّيُّ، وَقَدْ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ جَوَازَهُ عَقْلًا فِي حَقِّهِ أَيْضًا وَمَنَعَهُ غَيْرُهُ قِيلَ لِلْإِجْمَاعِ وَقِيلَ لِفَضْلِ الْمُجْتَهِدِ وَإِكْرَامِهِ وَرُدَّ بِاسْتِوَاءِ الْعَامِّيِّ وَغَيْرِهِ هُنَا فِي الصَّوَابِ لِفَرْضِ أَنَّ مَا يَحْكُمُ بِهِ صَوَابٌ وَطَرِيقُ وُصُولِهِ إلَى غَيْرِ النَّبِيِّ إخْبَارُ النَّبِيِّ بِهِ وَقُيِّدَ بِلَا اجْتِهَادٍ؛ لِأَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ جَائِزٌ لِلْعُلَمَاءِ بِلَا خِلَافٍ وَلِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا فِيهِ مِنْ خِلَافٍ كَمَا تَقَدَّمَ (وَتَرَدَّدَ الشَّافِعِيُّ) فِي الْجَوَازِ عَلَى مَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيُّ.
قِيلَ وَهُوَ فِي الرِّسَالَةِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ وَقِيلَ يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ رُتْبَتَهُ لَا تَبْلُغُ أَنْ يُقَالَ لَهُ ذَلِكَ وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ أَحَدُ قَوْلَيْ الْجُبَّائِيِّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَذَكَرَ أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ: لَا يَجُوزُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ إلَّا بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ هَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ (ثُمَّ الْمُخْتَارُ) عِنْدَ الْمُجِيزِينَ كَالْآمِدِيِّ وَاِبْنِ الْحَاجِبِ (عَدَمُ الْوُقُوعِ وَاسْتَدَلُّوا لِلتَّرَدُّدِ بِتَأْدِيَتِهِ) أَيْ الْجَوَازِ (إلَى اخْتِيَارِ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ) لِجَهْلِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ (فَيَكُونُ بَاطِلًا) ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) الدَّلِيلُ (يَصْلُحُ لِلنَّفْيِ) أَيْ نَفْيِ الْجَوَازِ (لَا لِلتَّرَدُّدِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ الْوَقْفُ ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُ) أَيْ الشَّافِعِيِّ كَيْفَ يَتَرَدَّدُ فِي الْجَوَازِ (وَالْفَرْضُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى مَا تَحْكُمُ بِهِ صَوَابٌ وَلَا مَانِعَ مِنْ الْعَقْلِ) إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ (وَالْأَلْيَقُ أَنَّ تَرَدُّدَهُ) أَيْ الشَّافِعِيِّ (فِي الْوُقُوعِ) مَعَ الْجَزْمِ بِالْجَوَازِ (كَمَا نُقِلَ عَنْهُ) وَفِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ نَقْلًا (الْوُقُوعُ) دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: ٩٣] ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَحْرِيمُ يَعْقُوبَ مَا حَرَّمَ مِنْ الطَّعَامِ عَلَى نَفْسِهِ إلَّا بِتَفْوِيضِ التَّحْرِيمِ إلَيْهِ وَإِلَّا كَانَ الْمُحَرِّمُ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى (أُجِيبَ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ) أَيْ مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ (عَنْ تَفْوِيضٍ) إلَيْهِ فِيهِ (لِجَوَازِهِ) أَيْ كَوْنِهِ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ (عَنْ اجْتِهَادٍ فِي ظَنِّيٍّ) وَإِسْنَادُ التَّحْرِيمِ إلَيْهِ مَجَازٌ كَمَا فِي نَحْوِ حَرَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ كَذَا وَأَبَاحَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ هُوَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالتَّفْوِيضُ لَا يَقْتَضِي إسْنَادَ الْحُكْمِ إلَى الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِعْلُهُ عَلَامَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَكَلَامُنَا فِي تَفْوِيضِ الْحُكْمِ إلَى الْمُجْتَهِدِ اخْتِيَارًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي مُسْتَنَدَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ لَا اجْتِهَادًا.
(وَقَدْ يُقَالُ: لَوْ) كَانَ تَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ (عَنْهُ) أَيْ عَنْ اجْتِهَادٍ ظَنِّيٍّ (لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ) أَيْ الطَّعَامُ (حِلًّا) لِبَنِي إسْرَائِيلَ (قَبْلَهُ) أَيْ إنْزَالِ التَّوْرَاةِ (لِأَنَّ الدَّلِيلَ يُظْهِرُ الْحُكْمَ لَا يُنْشِئُهُ لِقِدَمِهِ) أَيْ الْحُكْمِ فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ (قَالَ) الْقَائِلُ بِالْوُقُوعِ أَيْضًا (قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) : «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُعَرِّفٍ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَّا الْإِذْخِرَ فَقَالَ إلَّا الْإِذْخِرَ» لَفْظُ الْبُخَارِيِّ أَيْ لَا يُقْطَعُ نَبَاتُهَا الرَّطْبُ وَلَا شَجَرُهَا، وَالْإِذْخِرُ بِالذَّالِ، وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْخَاءِ نَبْتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ مَعْرُوفٌ (وَمِثْلُهُ) أَيْ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَا يَكُونُ عَنْ وَحْيٍ لِزِيَادَةِ السُّرْعَةِ) فِي الْجَوَابِ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ عَلَامَاتِ نُزُولِهِ (وَلَا اجْتِهَادٍ) لِذَلِكَ أَيْضًا (أُجِيبَ بِأَحَدِ أُمُورٍ: كَوْنُ الْإِذْخِرِ لَيْسَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْخَلَا أَيْ لَا يَصْلُحُ لَفْظُ الْخَلَا لَهُ لِيَتَنَاوَلَهُ الْحُكْمُ، وَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى إبَاحَتِهِ اسْتِصْحَابُ حَالِ الْحِلِّ (وَاسْتِثْنَاءُ الْعَبَّاسِ مُنْقَطِعٌ) ، وَهُوَ شَائِعٌ سَائِغٌ، وَلَوْ مَجَازًا.
(وَفَائِدَتُهُ) أَيْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هُنَا (دَفْعُ تَوَهُّمِ شُمُولِهِ) أَيْ الْإِذْخِرِ (بِالْحُكْمِ) الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ (وَتَأْكِيدُ حَالِهِ) أَيْ الْإِذْخِرِ الَّذِي هُوَ الْحِلُّ (أَوْ) كَوْنُ الْإِذْخِرِ (مِنْهُ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute