ظَاهِرًا فِي حَقِّنَا فَلَيْسَ حَقِيقَتُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّ الَّذِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَوْنُهُ مُؤَقَّتًا فِي عَمَلِهِ تَعَالَى فَيَنْتَهِي بِانْتِهَائِهِ لَا كَوْنُهُ مُسْتَمِرَّ الْمَشْرُوعِيَّةِ فَكَانَ اعْتِبَارُ كَوْنِهِ بَيَانًا أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ كَوْنِهِ رَفْعًا، وَالْبَيَانُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي إظْهَارِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ عِنْدَ وُجُودِهَا ابْتِدَاءً كَالْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ بَعْدَ الثُّبُوتِ بَلْ هُوَ بَيَانُ انْتِهَاءِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُسَلَّمًا فِي حَقِّ الشَّارِعِ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ حَقِيقَةً فِيهِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ رَفْعٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا بَلْ هُوَ بَيَانٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا أَيْضًا إذْ نَعْلَمُ بِهِ أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ مُؤَقَّتًا، وَأَنَّ الِاسْتِمْرَارَ الَّذِي تَوَسَّمْنَاهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَا فِي الْوَاقِعِ وَإِذَا كَانَ الْعِبَادُ مُحْتَاجِينَ إلَى الْبَيَانِ فَجَعْلُهُ بَيَانًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ هُوَ الْمُنَاسِبُ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ بِمَعْنَى الظُّهُورِ وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ بَيَانًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّارِعِ بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ لَهُمْ لِمَا يَجْهَلُونَهُ وَإِظْهَارُ الْمَجْهُولِ لِمَنْ لَا عِلْمَ لَهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْعَالِمِ بِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ إظْهَارًا وَبَيَانًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّارِعِ إظْهَارُ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا حَتَّى يُنَافِيَ كَوْنَ الْأَشْيَاءِ مَعْلُومَةً لَهُ انْتَهَى قُلْت.
ثُمَّ هَذَا كَمَا يُفِيدُ جَوَازُ تَعْرِيفِهِ بِكُلٍّ مِنْ جِهَتَيْ الْبَيَانِ وَالرَّفْعِ يُفِيدُ تَرْجِيحَ تَعْرِيفِهِ مِنْ جِهَةِ الْبَيَانِ عَلَى تَعْرِيفِهِ مِنْ جِهَةِ الرَّفْعِ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْإِمَامَانِ الرَّازِيَّانِ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْإسْفَرايِينِيّ وَنُسِبَ إلَى أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَعَكَسَ السُّبْكِيُّ فَرَجَّحَ الرَّفْعَ لِشُمُولِهِ النَّسْخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ وَفِي هَذَا التَّرْجِيحِ تَأَمُّلٌ وَعَلَيْهِ مَشَى الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، ثُمَّ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ (وَذِكْرُهُمْ) أَيْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ (الِانْتِهَاءَ دُونَ الرَّفْعِ إنْ كَانَ لِظُهُورِ فَسَادِهِ) أَيْ ذِكْرُ الرَّفْعِ (إذْ لَا يَرْتَفِعُ الْقَدِيمُ لَمْ يُفِدْ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الرَّفْعُ (لَازِمُ الِانْتِهَاءِ) فَإِنَّهُ إذَا انْتَهَى ارْتَفَعَ، وَإِذَا كَانَ الْقَدِيمُ لَا يَرْتَفِعُ فَكَذَا لَا يَنْتَهِي أَيْضًا وَحَيْثُ كَانَ الْمُرَادُ بِانْتِهَاءِ تَعَلُّقِهِ فَكَذَا الْمُرَادُ بِرَفْعِهِ رَفْعُ تَعَلُّقِهِ فَلَا مَحْذُورَ كَمَا سَلَفَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ فِيهِ (وَإِنْ) كَانَ (لِاتِّفَاقِ اخْتِيَارِهِمْ عِبَارَةٌ أُخْرَى) تُفِيدُ الرَّفْعَ (فَلَا بَأْسَ) إذْ لَا حَجْرَ فِي ذَلِكَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّازِيِّ، ثُمَّ السُّبْكِيّ يُفِيدُ أَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا وَأَفَادَهُ الْقَاضِي أَيْضًا لَكِنْ جَعَلَ ثَمَرَتَهُ جَوَازَ نَسْخِ الْخَبَرِ وَعَدَمَ جَوَازِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةِ نَسْخِ الْخَبَرِ.
وَقَدْ يُقَالُ: لَا خَفَاءَ فِي اتِّفَاقِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ انْعَدَمَ تَعَلُّقُهُ لَا ذَاتُهُ وَأَنَّ الْخِطَابَ الثَّانِي هُوَ الَّذِي حَقَّقَ زَوَالَ تَعَلُّقِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي أَنْ يُقَالَ: الرَّافِعُ هُوَ الثَّانِي حَتَّى لَوْ لَمْ يَجِئْ لَبَقِيَ الْأَوَّلُ أَوْ أَنَّ لِلْأَوَّلِ غَايَةً لَا نَعْلَمُهَا فَلَمَّا جَاءَ الدَّلِيلُ بَيَّنَ انْتِهَاءَهَا حَتَّى لَوْ لَمْ يَجِئْ كَانَ الْحُكْمُ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْهُ فَيَتَخَلَّصُ الْفَرْقُ بَيْنَهَا إلَى أَنَّهُ زَالَ بِهِ أَوْ عِنْدَهُ لَا بِهِ وَلَكِنْ لَمْ نَعْلَمْ الزَّوَالَ إلَّا بِهِ وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ فَلَا يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْنَوِيًّا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَة جَوَازِهِ أَيْ النَّسْخِ]
(مَسْأَلَةٌ أَجْمَعَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى جَوَازِهِ) أَيْ النَّسْخِ عَقْلًا (وَوُقُوعِهِ) سَمْعًا (وَخَالَفَ غَيْرُ الْعِيسَوِيَّةِ مِنْ الْيَهُودِ فِي جَوَازِهِ فَفِرْقَةٌ) وَهُمْ الشَّمْعُونِيَّةُ مِنْهُمْ ذَهَبُوا إلَى امْتِنَاعِهِ (عَقْلًا) وَسَمْعًا (وَفِرْقَةٌ) وَهُمْ الْعَنَانِيَّةُ مِنْهُمْ ذَهَبُوا إلَى امْتِنَاعِهِ (سَمْعًا) أَيْ نَصًّا لَا عَقْلًا وَاعْتَرَفَ بِجَوَازِهِ عَقْلًا وَسَمْعًا الْعِيسَوِيَّةُ مِنْهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي عِيسَى الْأَصْفَهَانِيِّ الْمُعْتَرِفُونَ بِبَعْثَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بَنِي إسْمَاعِيلَ خَاصَّةً وَهُمْ الْعَرَبُ لَا إلَى الْأُمَمِ كَافَّةً (وَ) خَالَفَ (أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيَّ) الْمُعْتَزِلِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْحَافِظِ وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ وَقِيلَ: ابْنُ عُمَرَ وَقِيلَ: هُوَ عُمَرُ بْنُ يَحْيَى وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْعِلْمِ ذُو تَأْلِيفَاتٍ كَثِيرَةٍ مَا بَيْنَ تَفْسِيرٍ وَغَيْرِهِ (فِي وُقُوعِهِ فِي شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ) وَفِي الْقُرْآنِ كَذَا فِي كَشْفِ الْبَزْدَوِيِّ وَحَكَى الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعُهُ إنْكَارَهُ نَسْخَ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ كِتَابَهُ بِأَنَّهُ {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: ٤٢] فَلَوْ نُسِخَ بَعْضُهُ لَبَطَلَ وَأَجَابَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الضَّمِيرَ لِمَجْمُوعِ الْقُرْآنِ وَهُوَ لَا يُنْسَخُ اتِّفَاقًا.
وَأَجَابَ فِي الْمَحْصُولِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مِنْ الْكُتُبِ مَا يُبْطِلُهُ وَلَا يَأْتِي بَعْدَهُ مَا يُبْطِلُهُ وَأَجَابَ آخَرُونَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّسْخَ إبْطَالٌ سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَبْطَالٌ لَكِنَّا نَمْنَعُ أَنَّ هَذَا الْإِبْطَالَ بَاطِلٌ بَلْ هُوَ حَقٌّ مِنْ حَقٍّ {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: ٣٩] وَسَيُتْلَى عَلَيْك مَا يَقْطَعُ بِحَقِيقَةٍ وَيَقْطَعُ دَابِرَ الْإِنْكَارِ وَحَكَى الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ إنْكَارَهُ وَوُقُوعَ النَّسْخِ مُطْلَقًا وَقِيلَ: لَمْ يُنْكِرْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute