للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مَسْأَلَةٌ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاع بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ]

(مَسْأَلَةٌ وَلَا) يَنْعَقِدُ (بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) أَيْ طَيْبَةَ (وَحْدَهُمْ) عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّةِ (خِلَافًا لِمَالِكٍ) عَلَى مَا شَاعَ عَنْهُ وَإِلَّا فَقَدْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ مَذْهَبَهُ ابْنُ بُكَيْر وَأَبُو يَعْقُوبَ الرَّازِيّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَنِيَّاتٍ وَالطَّيَالِسِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عَلَى الْأَوَّلِ (قِيلَ مُرَادُهُ) أَيْ مَالِكٍ (أَنَّ رِوَايَتَهُمْ مُقَدَّمَةٌ) عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِمْ وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا (وَقِيلَ) مَحْمُولٌ (عَلَى الْمَنْقُولَاتِ الْمُسْتَمِرَّةِ) أَيْ الْمُتَكَرِّرَةِ الْوُجُودِ كَثِيرًا (كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالصَّاعِ) وَالْمُدِّ دُونَ غَيْرِهَا وَلَفْظُ الْقَرَافِيُّ وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عِنْدَ مَالِكٍ فِيمَا طَرِيقُهُ التَّوْقِيفُ حُجَّةٌ (وَقِيلَ بَلْ) هُوَ حُجَّةٌ (عَلَى الْعُمُومِ) فِي الْمَنْقُولَاتِ الْمُسْتَمِرَّةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ رَأْيُ أَكْثَرِ الْمَغَارِبَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهُ الصَّحِيحُ قَالُوا وَفِي رِسَالَةِ مَالِكٍ إلَى اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ الصَّحَابَةَ وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ حَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَعَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَادَّعَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَقَالَ جَدُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحُكِيَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ قَالَ لِي الشَّافِعِيُّ إذَا وَجَدْت مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى شَيْءٍ فَلَا يَدْخُلُ قَلْبَك شَكٌّ أَنَّهُ الْحَقُّ وَكُلَّمَا جَاءَك شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا تَلْتَفِتْ إلَيْهِ وَلَا تَعْبَأْ بِهِ فَقَدْ وَقَعْت فِي الْبِحَارِ وَاللُّجَجِ وَفِي لَفْظٍ لَهُ إذَا رَأَيْت أَوَائِلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى شَيْءٍ فَلَا تَشُكَّنَّ أَنَّهُ الْحَقُّ وَاَللَّهِ إنِّي لَك نَاصِحٌ وَاَللَّهِ إنِّي لَك نَاصِحٌ وَاَللَّهِ إنِّي لَك نَاصِحٌ وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ضَرْبَانِ نَقْلِيٌّ وَاسْتِدْلَالِيٌّ فَالْأَوَّلُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا نَقْلُ شَرْعٍ مُبْتَدَأٍ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلٍ كَنَقْلِهِمْ الصَّاعَ وَالْمُدَّ وَالْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَالْأَوْقَاتَ وَالْأَخْبَارَ وَنَحْوَهُ.

ثَانِيهَا نَقْلُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلٍ كَعُهْدَةِ الرَّقِيقِ. ثَالِثُهَا نَقْلُ ذَلِكَ مِنْ إقْرَارٍ كَتَرْكِهِمْ أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ تُزْرَعُ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ لَا يَأْخُذُونَهَا مِنْهَا وَهَذَا النَّوْعُ حُجَّةً يَلْزَمُ عِنْدَنَا الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَتَرْكُ الْأَخْبَارِ وَالْمَقَايِيسِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِيهِ وَالثَّانِي اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا بِمُرَجَّحٍ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَدَّمْنَا عَنْهُمْ إنْكَارَ كَوْنِهِ مَذْهَبَ مَالِكٍ. ثَانِيهَا مُرَجَّحٌ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. ثَالِثُهَا حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يُجْزَمْ خِلَافُهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْتَلَفَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ نَقْلٌ مُحَصِّلٌ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ وَإِنَّهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ تُحِيلُ الْعَادَةُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤَ عَلَى خِلَافِ الصِّدْقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا هَذَا سَبِيلُهُ أَوْلَى مِنْ إخْبَارِ الْآحَادِ الْأَقْيِسَةَ وَالظَّوَاهِرَ، وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي فَالْأَوْلَى فِيهِ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْفَرَدَ وَمُرَجِّحٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ وَدَلِيلُنَا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ مَأْرَزُ الْإِيمَانِ وَمَنْزِلُ الْأَحْكَامِ وَالصَّحَابَةُ هُمْ الْمُشَافِهُونَ لِأَسْبَابِهَا الْمُفَاهِمُونَ لِمَقَاصِدِهَا، ثُمَّ التَّابِعُونَ نَقَلُوهَا وَضَبَطُوهَا وَعَلَى هَذَا فَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مِنْ حَيْثُ إجْمَاعُهُمْ بَلْ إمَّا مِنْ جِهَةِ نَقْلِهِمْ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ مُشَاهَدَتِهِمْ الْأَحْوَالَ الدَّالَّةَ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرْعِ قَالَ وَهَذَا النَّوْعُ الِاسْتِدْلَالِيُّ إنْ عَارَضَهُ خَبَرٌ فَالْخَبَرُ أَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ أَوْلَى مِنْ الْخَبَرِ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ بِالْعِصْمَةِ إجْمَاعُ كُلِّ الْأُمَّةِ لَا بَعْضِهَا انْتَهَى.

فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا يَقُولُ بِهِ جُمْهُورُهُمْ، وَمِنْهَا مَا يَقُولُ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَالْمَرَاتِبُ أَرْبَعٌ مَا يَجْرِي مَجْرَى النَّقْلِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَنَقْلِهِمْ مِقْدَارَ الصَّاعِ وَالْمُدِّ وَهَذَا حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْعَمَلُ الْقَدِيمُ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ أَيْضًا وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى كَمَا سَلَفَ، وَعَمَلُهُمْ الْمُوَافِقُ لِأَحَدِ دَلِيلَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ كَحَدِيثَيْنِ وَقِيَاسَيْنِ فَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ مُرَجِّحٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ الْمَنْعُ وَعَلَيْهِ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ، وَمُرَجِّحٌ وَعَلَيْهِ أَبُو الْخَطَّابِ وَنَقَلَ عَنْ نَصِّ أَحْمَدَ وَالنَّقْلُ الْمُتَأَخِّرُ بِالْمَدِينَةِ، وَالْجُمْهُورُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَمَا ذَكَرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>