(الثَّالِثُ) مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي مُقَدِّمَةُ هَذَا الْكِتَابِ عِبَارَةٌ عَنْهَا (الْمُقَدِّمَاتُ الْمَنْطِقِيَّةُ) وَنَسَبَهَا إلَى الْمَنْطِقِ؛ لِأَنَّهَا مِنْهُ، وَقَوْلُهُ (مَبَاحِثُ النَّظَرِ) عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا (وَتَسْمِيَةُ جَمْعٍ) مِنْ الْأُصُولِيِّينَ كَالْآمِدِيِّ، وَمَنْ تَابَعَهُ (لَهَا) أَيْ لِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ (مَبَادِئُ كَلَامِيَّةٌ بَعِيدٌ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ ظَاهِرًا، وَعِلْمُ الْكَلَامِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَا (بَلْ الْكَلَامُ فِيهَا) أَيْ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ (كَغَيْرِهِ) مِنْ الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةِ فِي الْحَاجَةِ إلَيْهَا (لِاسْتِوَاءِ نِسْبَتِهَا) أَيْ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ (إلَى كُلِّ الْعُلُومِ) الْكَسْبِيَّةِ فِي كَوْنِهَا آلَةً لَهَا (وَهُوَ) أَيْ بَيَانُ الِاسْتِوَاءِ الْمَذْكُورِ (أَنَّهُ) أَيْ الشَّأْنَ (لَمَّا كَانَ الْبَحْثُ) عَرَضًا (ذَاتِيًّا لِلْعُلُومِ) لِعُرُوضِهِ لَهَا بِلَا وَسَطٍ فِي الثُّبُوتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (وَهُوَ) أَيْ الْبَحْثُ (الْحَمْلُ بِالدَّلِيلِ) ، وَهَذَا أَوْجَزُ مَا قِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ مَعَ الْجَمْعِ وَالْمَنْعِ (وَصِحَّتُهُ) أَيْ الدَّلِيلُ (بِصِحَّةِ النَّظَرِ، وَفَسَادُهُ بِهِ) أَيْ، وَفَسَادُ الدَّلِيلِ بِفَسَادِ النَّظَرِ كَمَا سَيَظْهَرُ (وَجَبَ التَّمْيِيزُ) بَيْنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالنَّظَرِ الْفَاسِدِ (لِيَعْلَمَ) بِمَعْرِفَتِهِمَا (خَطَأَ الْمَطَالِبِ وَصَوَابَهَا) فَإِنَّ خَطَأَهَا مِنْ فَسَادِ دَلِيلِهَا النَّاشِئِ عَنْ فَسَادِ النَّظَرِ وَصَوَابَهَا عَنْ صِحَّةِ دَلِيلِهَا النَّاشِئِ عَنْ صِحَّةِ النَّظَرِ.
فَإِذَا عُرِفَ حَالُ النَّظَرِ عُرِفَ حَالُ الدَّلِيلِ، وَإِذَا عُرِفَ حَالُ الدَّلِيلِ عُرِفَ حَالُ مَا أَدَّى إلَيْهِ فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ كُلٍّ مِنْ النَّظَرِ، وَقِسْمَيْهِ وَالدَّلِيلِ وَمَا يُفِيدُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ لِتَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ حَالِ الْمَطْلُوبِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْمَطَالِبِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ الْكَلَامِيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا فَجَعْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ مَبَادِئَ كَلَامِيَّةً لِلْأُصُولِ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ مَثَلًا، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى حَيْثُ قَالَ: إنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى هَذِهِ الْمَبَاحِثِ لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَا مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ الْخَاصَّةِ بَلْ هِيَ مُقَدِّمَةُ الْعُلُومِ كُلِّهَا، وَحَاجَةُ جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ إلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ كَحَاجَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ اهـ. نَعَمْ لَا بَأْسَ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ مِنْ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ إثْبَاتَ مَسَائِلِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ مُحْتَاجٌ إلَى دَلَائِلَ وَتَعْرِيفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِهَا مُوصِلَةً إلَى الْمَقْصُودِ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ الْمَبَاحِثِ الْمَنْطِقِيَّةِ أَوْ يَتَقَوَّى بِهَا فَهِيَ تَحْتَاجُ إلَيْهَا تِلْكَ الْعُلُومِ وَلَيْسَتْ جُزْءًا مِنْهَا بَلْ هِيَ عِلْمٌ عَلَى حِيَالِهَا، وَعِلْمُ الْكَلَامِ لَمَّا كَانَ رَئِيسَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمُقَدَّمًا عَلَيْهَا انْتَسَبَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا فَعُدَّتْ مَبَادِئَ كَلَامِيَّةٍ لِلْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ اهـ.
فَإِنَّ حَاصِلَ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لَيْسَتْ لِلتَّخْصِيصِ بَلْ لِاتِّفَاقِ سَبْقِ وُقُوعِهَا مَبَادِئَ لِلْكَلَامِ لِتَقَدُّمِهِ فِي الِاعْتِبَارِ وَالشَّرَفِ عَلَى مَا سِوَاهُ وَالشَّيْءُ يُضَافُ إلَى غَيْرِهِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ، وَحَيْثُ يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ثُمَّ نَقُولُ اسْتِطْرَادًا (وَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ مِنْ الْكَلَامِ إلَّا مَسْأَلَةُ الْحَاكِمِ) فَإِنَّهَا مِنْ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ (وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ) مَبَاحِثِ (الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ) لِكَوْنِ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى مَا هُوَ مِنْ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ فَتُلْحَقُ بِهَا فِي كَوْنِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْكَلَامِ (وَنَحْوِهِ) أَيْ هَذَا الْمَذْكُورِ كَمَسْأَلَةِ الْمُجْتَهِدِ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَمَسْأَلَةِ يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَمَا ضَاهَاهُمَا.
(وَهَذِهِ) الْمَذْكُورَاتُ (مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ) لِهَذَا الْعِلْمِ لَا مِنْهُ (يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى مَعْرِفَتِهَا (زِيَادَةُ بَصِيرَةٍ) لِمَعْرِفَةِ بَعْضِ مَقَاصِدِ هَذَا الْعِلْمِ تُذْكَرُ فِيهِ لِهَذَا الْغَرَضِ وَلَيْسَ ذِكْرُهَا فِي أَثْنَاءِ الْمَقَاصِدِ لِمُنَاسَبَةٍ حَسَّنَتْهُ ثَمَّةَ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى الْمُتَأَمِّلِ بِمَانِعٍ مِنْ كَوْنِهَا مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ مُقَدِّمَةَ الْعِلْمِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فِي حَدِّهِ وَغَايَتِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَوْضُوعِهِ بَلْ إذَا وُجِدَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ مُشَارِكٌ فِي إفَادَةِ الْبَصِيرَةِ كَانَ مِنْهَا وَسَاغَ ذِكْرُهُ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ فِيهَا ثُمَّ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ مِنْ مَبَادِئِ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ مَا يُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الْمَسَائِلِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَيْهِ، وَهِيَ مَعْدُودَةٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. (وَتَصِحُّ) أَنْ تَكُونَ (مَبَادِئَ) لَهُ (عَلَى) اصْطِلَاحِ (الْأُصُولِيِّينَ) ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَبَادِئَ عِنْدَهُمْ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْعِلْمِ أَوْ الشُّرُوعُ فِيهِ عَلَى بَصِيرَةٍ فَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ مِنْ أَجْزَائِهِ كَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فَهِيَ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنْهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute