كَانَ قَاضِي سِيوَاسَ الْبَلَدُ الشَّهِيرُ بِبِلَادِ الرُّومِ، وَمِنْ بَيْتِ الْعِلْمِ وَالْقَضَاءِ بِهِ قَدِمَ الْقَاهِرَةَ وَوَلِيَ خِلَافَةَ الْحُكْمِ بِهَا عَنْ الْقَاضِي الْحَنَفِيِّ بِهَا ثَمَّةَ ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَتَزَوَّجَ بِهَا بِنْتَ الْقَاضِي الْمَالِكِيِّ يَوْمَئِذٍ فَوَلَدَتْ لَهُ الْمُصَنِّفَ، وَمَدَحَهُ الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ الدَّمَامِينِيُّ بِقَصِيدَةٍ بَلِيغَةٍ يَشْهَدُ لَهُ فِيهَا بِعُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ فِي الْعِلْمِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ فِي الْحُكْمِ ثُمَّ رَغِبَ عَنْهَا وَرَجَعَ إلَى الْقَاهِرَةِ، وَأَقَامَ بِهَا مُكِبًّا عَلَى الِاشْتِغَالِ فِي الْعِلْمِ إلَى أَنْ مَاتَ كَذَا ذَكَرَ لِي الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَأَمَّا الْمُصَنِّفُ فَمَنَاقِبُهُ فِي تَحْقِيقِ الْعُلُومِ الْمُتَدَاوَلَةِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَمَآثِرُهُ فِي بَذْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْفَضَائِلِ عَلَى ضُرُوبِ شُجُونِهَا مَحْفُوظَةٌ مَأْثُورَةٌ فَاكْتَفَيْنَا بِقُرْبِ الْعَهْدِ بِمَعْرِفَتِهِ عَنْ بَسْطِ الْقَوْلِ هُنَا فِي تَرْجَمَتِهِ (غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ وَسَتَرَ عُيُوبَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَمَا أَفَادَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا كَانَ شَرَحَهُ مِنْ كِتَابِ الْبَدِيعِ لِابْنِ السَّاعَاتِيِّ إخْبَارُ صِيغَةِ إنْشَاءٍ مَعْنًى كَصِيَغِ الْعُقُودِ قَالَ وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي إنْكَارِ كَوْنِهَا إنْشَاءً لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ انْتِفَاءِ الِاتِّصَافِ بِالْجَمِيلِ قَبْلَ حَمْدِ الْحَامِدِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِنْشَاءَ يُقَارِنُ مَعْنَاهُ لَفْظَهُ فِي الْوُجُودِ وَيَبْطُلُ مِنْ قَطْعِيَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْحَامِدَ ثَابِتٌ قَطْعًا بَلْ الْحَمَّادُونَ، وَالْأُخْرَى أَنَّهُ لَا يُصَاغُ لُغَةً لِلْمُخْبِرِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ مُتَعَلَّقِ إخْبَارِهِ اسْمٌ قَطْعًا فَلَا يُقَالُ لِقَائِلٍ زَيْدٌ ثَابِتٌ لَهُ الْقِيَامُ قَائِمٌ فَلَوْ كَانَ الْحَمْدُ إخْبَارًا مَحْضًا لَمْ يُقَلْ لِقَائِلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَامِدٌ وَلَانْتَفَى الْحَامِدُونَ وَهُمَا بَاطِلَانِ فَبَطَلَ مَلْزُومُهُمَا، وَاللَّازِمُ مِنْ الْمُقَارَنَةِ انْتِفَاءُ وَصْفِ الْوَاصِفِ الْمُعَيَّنِ لَا الِاتِّصَافُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ إظْهَارُ الصِّفَاتِ الْكَمَالِيَّةِ الثَّابِتَةِ لَا ثُبُوتُهَا نَعَمْ يَتَرَاءَى لُزُومُ كَوْنِ كُلِّ مُخْبِرٍ مُنْشِئًا حَيْثُ كَانَ وَاصِفًا لِلْوَاقِعِ، وَمُظْهِرًا لَهُ وَهُوَ تَوَهُّمٌ فَإِنَّ الْحَمْدَ مَأْخُوذٌ فِيهِ مَعَ ذِكْرِ الْوَاقِعِ كَوْنُهُ عَلَى وَجْهِ ابْتِدَاءِ التَّعْظِيمِ وَهَذَا لَيْسَ جُزْءُ مَاهِيَّةِ الْخَبَرِ فَاخْتَلَفَتْ الْحَقِيقَتَانِ وَظَهَرَ أَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ اعْتِبَارِ هَذَا الْقَيْدِ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْحَمْدِ هُوَ مَنْشَأُ الْغَلَطِ، إذْ بِالْغَفْلَةِ عَنْهُ ظَنَّ أَنَّهُ إخْبَارٌ لِوُجُودٍ خَارِجَ مُطَابِقِهِ وَهُوَ الِاتِّصَافُ وَلَا خَارِجَ لِلْإِنْشَاءِ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ هَذَا خَارِجُ جُزْءِ الْمَفْهُومِ وَهُوَ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ وَتَمَامُهُ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْهُ، وَمِنْ كَوْنِهِ عَلَى وَجْهِ ابْتِدَاءِ التَّعْظِيمِ لَا خَارِجٌ لَهُ بَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ مَعْنَى لَفْظِهِ عِلَّةً لَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ. اهـ.
وَقَدْ عَرَفْت مِنْهُ مَعْنَى الْحَمْدِ وَلِلنَّاسِ عِبَارَاتٌ شَتَّى فِي بَيَانِهِ لَا يَخْلُو بَعْضُهَا مِنْ نَظَرٍ وَبَحْثٍ فَيَطْلُبُ مَعَ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالْمَدْحِ فِي مَظَانِّهَا إذْ لَا حَاجَةَ بِنَا هُنَا إلَى الْإِطْنَابِ بِهَا.
ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاسْمَ الْجَلِيلَ أَعْنِي اللَّهَ خَاصٌّ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ (وَلَكِنْ هَلْ هُوَ عَرَبِيٌّ أَمْ عِبْرِيٌّ أَوْ سُرْيَانِيٌّ؟ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ هَلْ هُوَ عَلَمٌ أَوْ صِفَةٌ؟ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ هَلْ هُوَ مُشْتَقٌّ أَوْ الْخَالِقُ لِلْعَالَمِ الْمُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ بَلْ هُوَ أَخُصُّ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ كَمَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ لَا أَنَّهُ عِبْرِيٌّ أَوْ سُرْيَانِيٌّ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو زَيْدٍ الْبَلْخِيُّ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ هَلْ هُوَ عَلَمٌ أَوْ صِفَةٌ فَقِيلَ صِفَةٌ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ أَنَّهُ عَلَمٌ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ هَلْ هُوَ مُشْتَقٌّ أَوْ غَيْرُ مُشْتَقٍّ فَقِيلَ مُشْتَقٌّ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي الْمَادَّةِ الَّتِي اُشْتُقَّ مِنْهَا، وَفِي أَنَّ عَلَمِيَّتِهِ حِينَئِذٍ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ أَوْ الْغَلَبَةِ.
وَقِيلَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ بَلْ هُوَ عَلَمٌ مُرْتَجَلٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَصْلٍ أُخِذَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ وَالْخَلِيلُ وَالزَّجَّاج وَابْنُ كَيْسَانَ وَالْحَلِيمِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ ثُمَّ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ هُوَ اللَّهُ، وَبِهِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَأَكْثَرُ الْعَارِفِينَ حَتَّى إنَّهُ لَا ذِكْرَ عِنْدَهُمْ لِصَاحِبِ مَقَامٍ فَوْقَ الذِّكْرِ بِهِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا وَجْهُ تَخْصِيصِ الْحَمْدِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْحَمْدَ عَلَيْهِ جَرْيًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي لِلْعُدُولِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ سَالِمٍ مِنْ الْمُعَارِضِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ ذِكْرِ اللَّهِ أَهَمُّ نَظَرًا إلَى ذَاتِهِ يُعَارِضُهُ كَوْنُ الْمَقَامِ مَقَامُ الْحَمْدِ لِلَّهِ.
(الَّذِي أَنْشَأَ) فِي الصِّحَاحِ أَنْشَأَهُ اللَّهُ خَلْقَهُ، وَالِاسْمُ النَّشْأَةُ وَالنَّشَاءَةُ بِالْمَدِّ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَأَنْشَأَ يَفْعَلُ كَذَا أَيْ ابْتَدَأَ (هَذَا الْعَالَمَ) الْمُشَاهَدَ عُلْوِيَّهُ وَسُفْلِيَّهُ، وَمَا بَيْنَهُمَا لِذَوِي الْبَصَائِرِ وَالْأَبْصَارِ عَلَى مَمَرِّ السِّنِينَ وَالْأَعْصَارِ ثُمَّ قِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعِلْمِ فَإِطْلَاقُهُ حِينَئِذٍ عَلَى السَّمَوَاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute