(عِلْمَ الْمَطْلُوبِ بِالْعَادَةِ) أَيْ بِإِجْرَائِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّكْرَارِ دَائِمًا مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ كَمَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ وَوَجْهُهُ مَعْرُوفٌ فِي فَنِّهِ هَذَا وَقَدْ أُورِدَ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ أَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ بَعْدَ بِدَايَةِ الْمَعْقُولَاتِ كَمَا إذَا اسْتَدْلَلْنَا مِنْ وُجُودِ الْعَالَمِ عَلَى أَنَّ لَهُ صَانِعًا عَالِمًا ثُمَّ طَلَبْنَا بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ عِلْمُهُ عَيْنُ ذَاتِهِ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ لَا هُوَ وَلَا ذَاكَ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الطَّلَبَ بَعْدَ بِدَايَةِ الْمَعْقُولَاتِ بِمَرْتَبَةٍ أَوْ بِمَرَاتِبَ لَا يَمْنَعُ كَوْنُ الْبِدَايَةِ مِنْ انْتِهَاءِ الْحِسِّ وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهِ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الْحِسِّ وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَصْدُقُ قَوْلُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ دَرْكُ الْحَوَاسِّ؛ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ مِنْ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ ابْتِدَاءُ الْمَعْقُولَاتِ بَلْ الْجَوَابُ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَأَتَّى فِيمَا لَهُ صُورَةٌ مَحْسُوسَةٌ.
وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ فَإِنَّمَا يُبْتَدَأُ بِطَرِيقِ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ حَيْثُ يُوجَدُ
(وَأَمَّا جَعْلُ النُّورِ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ) أَيْ جَعْلُ هَذَا التَّعْرِيفِ لِلْعَقْلِ هُنَا تَعْرِيفًا لِلْعَقْلِ الْأَوَّلِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ حَيْثُ أَرَادُوا بِهِ (الْجَوْهَرَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الْمَادَّةِ فِي نَفْسِهِ وَفِعْلِهِ) وَزَعَمُوا أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنُّورِ الْمُنَوِّرَ كَمَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: ٣٥] كَمَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ احْتِمَالًا مُمْكِنًا (فَبَعِيدٌ عَنْ الصَّوَابِ) فَإِنَّ الْأُصُولِيِّينَ جَعَلُوا الْعَقْلَ مِنْ صِفَاتِ الْمُكَلَّفِ ثُمَّ فَسَرُّوهُ هَذَا التَّفْسِيرَ (وَكَذَا) بَعِيدٌ عَنْ الصَّوَابِ (جَعْلُهُ) أَيْ النُّورَ الَّذِي هُوَ تَفْسِيرُ الْعَقْلِ هُنَا (إشْرَاقَهُ) أَيْ الْأَثَرِ الْفَائِضِ مِنْ هَذَا الْجَوْهَرِ عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ هُنَا النُّورَ الْمَعْنَوِيَّ الْخَالِصَ بِإِشْرَاقِ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ كَمَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ احْتِمَالًا آخَرَ مُمْكِنًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْمُكَلَّفِ أَيْضًا بَلْ هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْجَوْهَرِ الْأَوَّلِ وَلَازِمِهِ.
(مَعَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ بِإِشْرَاقِهِ) وَإِفَاضَةِ نُورِهِ (عَلَى النَّفْسِ وَالْمُدْرِكِ) وَهُوَ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ لَهَا (الْإِدْرَاكُ) وَهُوَ فَاعِلُ يَحْصُلُ إنَّمَا هُوَ (عِنْدَهُمْ) أَيْ الْفَلَاسِفَةِ (الْعَقْلُ الْعَاشِرُ الْمُتَعَلِّقُ بِفَلَكِ الْقَمَرِ وَإِلَيْهِ يَنْسُبُونَ الْحَوَادِثَ الْيَوْمِيَّةَ عَلَى مَا هُوَ كُفْرُهُمْ لَا) الْعَقْلُ (الْأَوَّلُ وَكَذَا) بَعِيدٌ عَنْ الصَّوَابِ (جَعْلُهُ) أَيْ النُّورَ الَّذِي هُوَ تَفْسِيرُ الْعَقْلِ هُنَا (الْمَرْتَبَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ مَرَاتِبِ النَّفْسِ) النَّاطِقَةِ بِحَسَبِ مَا لَهَا مِنْ التَّعَقُّلِ، وَهِيَ أَرْبَعٌ عَلَى الْمَشْهُورِ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى اسْتِعْدَادٌ بَعِيدٌ نَحْوَ الْكَمَالِ وَهُوَ مَحْضُ قَابِلِيَّةِ النَّفْسِ لِإِدْرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ مَعَ خُلُوِّهَا عَنْ إدْرَاكِهَا بِالْفِعْلِ كَمَا لِلْأَطْفَالِ فَإِنَّ لَهُمْ فِي حَالِ الطُّفُولِيَّةِ وَابْتِدَاءِ الْخِلْقَةِ اسْتِعْدَادًا مَحْضًا لَيْسَ مَعَهُ إدْرَاكٌ وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِعْدَادُ حَاصِلًا لِسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَيُسَمَّى عَقْلًا هَيُولَانِيًّا تَشْبِيهًا بِالْهَيُولَى الْأُولَى الْخَالِيَةِ فِي نَفْسِهَا عَنْ جَمِيعِ الصُّوَرِ الْقَابِلَةِ لَهَا فَهِيَ كَقُوَّةِ الطِّفْلِ لِلْكِتَابَةِ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ اسْتِعْدَادٌ مُتَوَسِّطٌ وَهُوَ اسْتِعْدَادُهَا لِتَحْصِيلِ النَّظَرِيَّاتِ بَعْدَ حُصُولِ الضَّرُورِيَّاتِ وَيُسَمَّى عَقْلًا بِالْمَلَكَةِ لِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ مَلَكَةِ الِانْتِقَالِ إلَى النَّظَرِيَّاتِ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّيِّ الْمُسْتَعِدِّ لِتَعَلُّمِ الْكِتَابَةِ وَتَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ النَّاسِ فِي هَذَا اخْتِلَافًا عَظِيمًا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الِاسْتِعْدَادِ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ اسْتِعْدَادٌ قَرِيبٌ جِدًّا وَهُوَ الِاقْتِدَارُ عَلَى اسْتِحْصَالِ النَّظَرِيَّاتِ مَتَى شَاءَتْ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى كَسْبٍ جَدِيدٍ لِكَوْنِهَا مُكْتَسِبَةً مَخْزُونَةً تَحْضُرُ بِمُجَرَّدِ الْتِفَاتٍ بِمَنْزِلَةِ الْقَادِرِ عَلَى الْكِتَابَةِ حِينَ لَا يَكْتُبُ وَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَتَى شَاءَ وَيُسَمَّى عَقْلًا بِالْفِعْلِ لِشِدَّةِ قُرْبِهِ مِنْ الْفِعْلِ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ الْكَمَالُ وَهُوَ أَنْ يُحَصِّلَ النَّظَرِيَّاتِ مُشَاهَدَةً بِمَنْزِلَةِ الْكَاتِبِ حِين يَكْتُبُ.
وَيُسَمَّى عَقْلًا مُسْتَفَادًا أَيْ مِنْ خَارِجٍ هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ الَّذِي يُخْرِجُ نُفُوسَنَا مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ فِيمَا لَهُ مِنْ الْكِمَالَاتِ وَنِسْبَتُهُ إلَيْنَا نِسْبَةُ الشَّمْسِ إلَى أَبْصَارِنَا فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ (أَعْنِيَ الْعَقْلَ بِالْمَلَكَةِ) وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا بَعِيدًا أَيْضًا (؛ لِأَنَّهُ) أَيْ النُّورَ الْمَذْكُورَ (آلَةٌ لَهَا) أَيْ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَيْ لِحُصُولِهَا لِلنَّفْسِ لَا أَنَّهُ عَيْنُهَا (وَالْمُسَمَّى) بِالْعَقْلِ بِالْمَلَكَةِ (هِيَ) أَيْ النَّفْسُ (فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَوْ الْمَرْتَبَةِ) الَّتِي فِيهَا النَّفْسُ لَكِنْ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَتَخْتَلِفُ عِبَارَاتُ الْقَوْمِ فِي أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ أَسَامٍ لِهَذِهِ الِاسْتِعْدَادَاتِ وَالْكَمَالِ أَوْ لِلنَّفْسِ بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهَا بِهَا أَوْ لِقُوًى فِي النَّفْسِ هِيَ مَبَادِئُهَا مَثَلًا يُقَالُ تَارَةً إنَّ الْعَقْلَ الْهَيُولَانِيَّ هُوَ اسْتِعْدَادُ النَّفْسِ لِقَبُولِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَتَارَةً أَنَّهُ قُوًى اسْتِعْدَادِيَّةٌ أَوْ قُوَّةٌ مِنْ شَأْنِهَا الِاسْتِعْدَادُ الْمَحْضُ وَتَارَةً أَنَّهُ النَّفْسُ فِي مَبْدَأِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute