بِظَاهِرِ إطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الْإِمْسَاكَ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قُلْت وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ كَنَسْخِ حُرْمَةِ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثَةِ بِالنَّوْمِ بَعْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ أَوْ بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ إذْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ «كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا فَأَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ هَلْ عِنْدَك مِنْ طَعَامٍ قَالَتْ لَا وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ أَطْلُبُ لَك وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ خَيْبَةً لَك فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: ١٨٧] فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا وَنَزَلَتْ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: ١٨٧] » وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «وَكَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّوْا الْعَتَمَةَ حَرُمَ عَلَيْهِمْ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ وَصَامُوا إلَى الْقَابِلَةِ فَاخْتَانَ رَجُلٌ نَفْسَهُ فَجَامَعَ امْرَأَتَهُ وَقَدْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَلَمْ يُفْطِرْ فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ يُسْرًا لِمَنْ بَقِيَ وَرُخْصَةً وَمَنْفَعَةً فَقَالَ سُبْحَانَهُ {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: ١٨٧] » نَعَمْ الْمَشْهُورُ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْبَرَاءِ. وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَاتِ الْبَرَاءِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُقَيَّدًا بِالنَّوْمِ وَيَتَرَجَّحُ بِقُوَّةِ سَنَدِهِ
وَبِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «إنَّ النَّاسَ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الصِّيَامِ مَا نَزَلَ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَحِلُّ لَهُمْ شَأْنُ النِّسَاءِ فَإِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَطْعَمْ وَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَأْتِ أَهْلَهُ حَتَّى يُفْطِرَ مِنْ الْقَابِلَةِ وَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ مَا نَامَ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَشْكُو إلَى اللَّهِ وَإِلَيْك الَّذِي أَصَبْت قَالَ وَمَا الَّذِي صَنَعْت قَالَ إنِّي سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي فَوَقَعْت عَلَى أَهْلِي بَعْدَ مَا نِمْتُ وَأَرَدْت الصِّيَامَ فَنَزَلَتْ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: ١٨٧] إلَى قَوْلِهِ فَالْآنَ {بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: ١٨٧] » وَبِمَا أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ كُتِبَ عَلَى النَّصَارَى الصِّيَامُ وَكُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَأْكُلُوا وَلَا يَشْرَبُوا وَلَا يَنْكِحُوا بَعْدَ النَّوْمِ وَكُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَمِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ يَفْعَلُونَ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ إذَا نَامَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَطْعَمْ حَتَّى الْقَابِلَةِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مَرْفُوعًا «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ» ثُمَّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ وَإِنْ ثَبَتَتْ عِنْدَ نَسْخِ الْحُرْمَةِ لَكِنْ لَمْ يُفِدْهَا نَفْسُ النَّاسِخِ أَعْنِي قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: ١٨٧] فَإِنْ قِيلَ بَلْ أَفَادَ هَذَا النَّاسِخُ الْإِبَاحَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَهِيَ الْحِلُّ فَلَا يَصْلُحُ جَعْلُهُ مِمَّا لَمْ يُفِدْ فِيهِ النَّاسِخُ بَدَلًا.
قُلْنَا الْحِلُّ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَلْ بَعْضُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّهُ إمَّا بَعْضُ الْإِبَاحَةِ أَوْ بَعْضُ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ فَلَا يَسْتَقِلُّ حُكْمًا بَلْ هُوَ جِنْسٌ لِلْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: ١٨٧] فَدَلِيلٌ آخَرُ أَفَادَ الْبَدَلَ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ الَّذِي يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا الْقِسْمِ (وَلَيْسَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ النَّاسِخِ لِحُكْمٍ بِبَدَلٍ مُفَادُهُ بِغَيْرِ النَّاسِخِ (نَاسِخُ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ) فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّهُ مَقْرُونٌ بِالْبَدَلِ حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَهَذِهِ إبَاحَةٌ شَرْعِيَّةٌ هِيَ بَدَلٌ مَقْرُونٌ بِدَلِيلِ النَّسْخِ وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي تَمْثِيلِهِ لِوُقُوعِ النَّسْخِ بِلَا بَدَلٍ بِهَذَا (وَجَازَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ الدَّلِيلُ) النَّاسِخُ (لِغَيْرِ الرَّفْعِ) لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ (أَوْ) أُرِيدَ بِالْبَدَلِ بَدَلٌ هُوَ حُكْمٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ (بِلَا ثُبُوتٍ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ) لِذَلِكَ الْفِعْلِ
(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ) ذَلِكَ الْحُكْمُ (بِهِ) أَيْ ثَابِتًا بِدَلِيلِ النَّسْخِ (فَكَذَلِكَ) أَيْ الْحَقُّ نَفْيُهُ (لِذَلِكَ) أَيْ لِأَنَّهُ بِلَا مُوجِبٍ لَهُ (وَتَكُونُ) الصِّفَةُ (الثَّابِتَةُ) لِلْفِعْلِ (الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَإِلَّا فَقَدْ عَرَفَ مَا عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ
(لَكِنْ لَيْسَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ النَّاسِخِ بِلَا ثُبُوتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ (نَسْخُ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ) عِنْدَ إرَادَةِ مُنَاجَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لِثُبُوتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ) وَهُوَ نَدْبِيَّةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute