كَنَسْخِ آيَاتِ الْمُسَالَمَةِ لِلْكُفَّارِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ آيَةٍ كَقَوْلِهِ {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: ١٣] (بِالْقِتَالِ) أَيْ بِآيَاتِهِ كَقَوْلِهِ {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: ٣٦] (وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ بِمِثْلِهِ) أَيْ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ (وَ) خَبَرُ (الْآحَادِ بِمِثْلِهِ) كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا وَعَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ أَنْ تُمْسِكُوا فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ» إلَخْ) وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ مُخَرِّجًا وَأَسْلَفْت بَعْضَ سِيَاقِ مُسْلِمٍ وَتَمَامُهُ «وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ النَّبِيذِ إلَّا فِي سِقَاءٍ فَاشْرَبُوا فِي الْأَوْعِيَةِ وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إلَخْ وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِكُلٍّ مِنْهُمَا (فَبِالْمُتَوَاتِرِ) أَيْ فَجَوَازُ نَسْخِ الْآحَادِ بِالْمُتَوَاتِرِ (أَوْلَى) مِنْ جَوَازِ النَّسْخِ بِالْآحَادِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى (وَأَمَّا قَلْبُهُ) وَهُوَ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ (فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ كُلُّ مَانِعِي تَخْصِيصِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ وَأَكْثَرُ مُجِيزِيهِ) أَيْ تَخْصِيصِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ (فَارِقِينَ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ جَمْعٌ لَهُمَا) أَيْ لِلْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ.
(وَالنَّسْخُ إبْطَالُ أَحَدِهِمَا) الَّذِي هُوَ الْمُتَوَاتِرُ بِالْآحَادِ (وَأَجَازَهُ) أَيْ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ (بَعْضُهُمْ) أَيْ بَعْضُ الْمُجِيزِينَ لِتَخْصِيصِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ (لَنَا) خَبَرُ الْآحَادِ (لَا يُقَاوِمُهُ) أَيْ الْمُتَوَاتِرَ؛ لِأَنَّهُ قَطْعِيٌّ وَخَبَرُ الْآحَادِ ظَنِّيٌّ (فَلَا يُبْطِلُهُ) خَبَرُ الْآحَادِ الْمُتَوَاتِرَ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُبْطِلُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ (قَالُوا) أَيْ الْمُجِيزُونَ (وَقَعَ) نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِخَبَرِ الْآحَادِ (إذْ ثَبَتَ التَّوَجُّهُ) لِأَهْلِ مَسْجِدِ قَبَاءَ (إلَى الْبَيْتِ بَعْدَ الْقَطْعِيِّ) الْمُفِيدِ لِتَوَجُّهِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا يَزِيدُ عَلَى عَامٍ عَلَى خِلَافٍ فِي مِقْدَارِهِ (الْآتِي لِأَهْلِ) مَسْجِدِ (قَبَاءَ) كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَتَقَدَّمَ سِيَاقُهُ، وَقَوْلُ ابْنِ طَاهِرٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وَمَا لِشَيْخِنَا الْحَافِظِ مِنْ التَّعَقُّبِ لَهُ فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الرَّاوِي (وَلَمْ يُنْكِرْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَهُ لَنُقِلَ وَلَمْ يُنْقَلْ وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ «تَوِيلَةَ بِنْتِ مُسْلِمٍ قَالَتْ صَلَّيْنَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي مَسْجِدِ بَنِي حَارِثَةَ وَاسْتَقْبَلْنَا مَسْجِدَ إيلِيَاءَ فَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَاءَنَا مَنْ يُحَدِّثُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَتَحَوَّلْنَا النِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ فَصَلَّيْنَا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ وَنَحْنُ مُسْتَقْبِلُونَ الْبَيْتَ الْحَرَامِ فَحَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنَى حَارِثَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أُولَئِكَ رِجَالٌ آمَنُوا بِالْغَيْبِ» (وَبِأَنَّهُ) أَيْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كَانَ يَبْعَثُ الْآحَادَ لِلتَّبْلِيغِ) لِلْأَحْكَامِ مُطْلَقًا أَيْ مُبْتَدَأَةً كَانَتْ أَوْ نَاسِخَةً لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَالْمَبْعُوثُ إلَيْهِمْ مُتَعَبَّدُونَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْأَحْكَامِ مَا يَنْسَخُ مُتَوَاتِرًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا الْفَرْقَ بَيْنَ مَا نَسَخَ مُتَوَاتِرًا وَهَذَا دَلِيلُ جَوَازِ نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: ١٤٥] الْآيَةَ) نُسِخَ مِنْهَا مَا يُفِيدُ حِلَّهُ مِنْ ذِي النَّابِ (بِتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ) مِنْ السِّبَاعِ الثَّابِتِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ» إذْ الْآيَةُ إنَّمَا تُفِيدُ تَحْرِيمَ مَا اُسْتُثْنِيَ فِيهَا وَذُو النَّابِ لَمْ يُسْتَثْنَ فِيهَا فَكَانَ مُبَاحًا وَحَيْثُ حُرِّمَ فَإِنَّمَا حُرِّمَ بِالْحَدِيثِ وَإِذَا جَازَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَبِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَجْدَرُ
(أُجِيبُ بِجَوَازِ اقْتِرَانِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِمَا يُفِيدُ الْقَطْعَ) وَالْأَوَّلُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْقَرَائِنِ فِيهِ ظَاهِرٌ وَالْمَصِيرَ إلَيْهِ لِوُجُودِ الْمُعَارِضِ الْقَطْعِيِّ وَاجِبٌ (وَجَعْلُهُ) أَيْ الْمُقْتَرِنِ بِهَذَا الْخَبَرِ الْمُفِيدِ لِقَطْعِهِ (النِّدَاءَ) أَيْ نِدَاءَ مُخْبِرِهِمْ بِذَلِكَ (بِحَضْرَتِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ كَمَا ذَكَرَ عَضُدُ الدِّينِ (غَلَطٌ أَوْ تَسَاهُلٌ) بِأَنْ يُرَادَ بِحَضْرَتِهِ وُجُودُهُ فِي مَكَان قَرِيبٍ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا صَنَعَ الْمُخْبِرُ كَالْوَاقِعِ بِحُضُورِهِ (وَهُوَ) أَيْ التَّسَاهُلُ (الثَّابِتُ) لِبُعْدٍ لِمَنْ يُرَادُ نِدَاؤُهُ فِي مَجْلِسِهِ (وَالثَّانِي) وَهُوَ بَعْثُهُ الْآحَادَ لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ إنَّمَا يَتِمُّ (إذَا ثَبَتَ إرْسَالُهُمْ) أَيْ الْآحَادِ (بِنَسْخِ) حُكْمٍ (قَطْعِيٍّ عِنْدَ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ وَلَيْسَ) ذَلِكَ بِثَابِتٍ وَمَنْ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُجِيبَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لَهُ بِأَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْآحَادِ بِقَرَائِنِ الْحَالِ وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّلِيلِ الْمَانِعِ (وَلَا أَجِدُ الْآنَ تَحْرِيمًا) أَيْ وَمَعْنَى الْآيَةِ هَذَا؛ لِأَنَّ أَجِدُ فِعْلٌ مُضَارِعٌ لِلْحَالِ فَتَكُونُ إبَاحَةُ غَيْرِ الْمُسْتَثْنَى مُؤَقَّتَةً بِوَقْتِ الْإِخْبَارِ بِهَا وَهُوَ الْآنَ لَا مُؤَبَّدَةً
(فَالثَّابِتُ) فِيمَا عَدَاهُ فِيهَا عَدَمُ تَحْرِيمِ الشَّارِعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِطَابُ الْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ كَمَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (إبَاحَةٌ أَصْلِيَّةٌ وَرَفْعُهَا)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute