نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِهِ وَالْآحَادُ دَلِيلُهُ وَقَوْلُهُ (إذْ مَا لَا يُقْبَلُ ابْتِدَاءً قَدْ يُقْبَلُ مَآلًا كَشَاهِدَيْ الْإِحْصَانِ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يُقْبَلُ حُكْمُ الصَّحَابِيِّ بِالنَّسْخِ فَكَذَا لَا يُقْبَلُ مَا يَسْتَلْزِمُ حُكْمَهُ بِهِ وَهُوَ تَعْيِينُهُ أَحَدَ الْمُتَوَاتِرَيْنِ لِذَلِكَ وَإِيضَاحُ الْجَوَابِ أَنَّ مَا لَا يُقْبَلُ أَوَّلًا قَدْ يُقْبَلُ إذَا كَانَ الْمَآلُ إلَيْهِ كَمَا يُقْبَلُ الشَّاهِدَانِ فِي الْإِحْصَانِ، وَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ لَا فِي الرَّجْمِ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ إلَّا عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ بِالزِّنَا وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْوِلَادَة، وَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا النَّسَبُ لَا فِي النَّسَبِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَجَاءَ التَّجْوِيزُ الْعَقْلِيُّ إذْ يُحْتَمَلُ مَا نَحْنُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُقْبَلُ ابْتِدَاءً وَيُقْبَلُ تَبَعًا (فَوَجَبَ الْوَقْفُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (فَإِنْ) كَانَ وُجُوبُهُ (عَنْ الْحُكْمِ بِالنَّسْخِ فَكَالْأَوَّلِ) أَيْ كَقَوْلِهِ هَذَا نَاسِخٌ فِي غَيْرِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ وَقَدْ عَرَفْت أَنْ لَا وُجُوبَ لِلْوَقْفِ فِيهِ بَلْ هُوَ نَاسِخٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرُ نَاسِخٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
(وَإِنْ) كَانَ وُجُوبُهُ (عَنْ التَّرْجِيحِ) لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ (فَلَيْسَ) التَّرْجِيحُ (لَازِمًا) لِلْمُتَعَارَضَيْنِ (بَلْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ) أَيْ التَّرْجِيحِ (وَمِنْ الْجَمْعِ) بَيْنَهُمَا إذَا أَمْكَنَ، ثُمَّ التَّرْجِيحُ هُنَا لِلنَّسْخِ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ بِطَرِيقِ أَوْلَى فَإِنَّ فِي غَيْرِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ قَدْ لَا يَلْزَمُ النَّسْخُ وَهُوَ بِاجْتِهَادِهِ حُكْمٌ بِالنَّسْخِ وَفِي الْمُتَوَاتِرَيْنِ النَّسْخُ لَازِمٌ وَالصَّحَابِيُّ عَيَّنَ النَّاسِخَ هَذَا وَاَلَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ لَوْ قَالَ هَذَا الْحَدِيثُ سَابِقٌ قُبِلَ إذْ لَا مَدْخَلَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ قَالَ وَالضَّابِطُ أَنْ لَا يَكُونَ نَاقِلًا فَيُطَالَبَ بِالْحِجَاجِ فَأَمَّا إذَا كَانَ نَاقِلًا فَيُقْبَلُ، ثُمَّ هَذِهِ هِيَ الطُّرُقُ الصَّحِيحَةُ فِي مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ (بِخِلَافِ بُعْدِيَّتِهِ) أَيْ أَحَدِ النَّصَّيْنِ عَنْ الْآخَرِ (فِي الْمُصْحَفِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ بُعْدِيَّتَهُ فِي النُّزُولِ عَلَيْهِ (وَ) بِخِلَافِ (حَدَاثَةِ سِنِّ الصَّحَابِيِّ) الرَّاوِي لَهُ (فَتَتَأَخَّرُ صُحْبَتُهُ فَمَرْوِيُّهُ) عَنْهُ أَيْضًا (وَ) بِخِلَافِ (تَأَخُّرِ إسْلَامِهِ) أَيْ الصَّحَابِيِّ الرَّاوِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ تَأَخُّرَ مَرْوِيِّهِ أَيْضًا (بِجَوَازِ قَلْبِهِ) أَيْ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ غَيْرِهِ فِي تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ قَبْلَهُ فِي النُّزُولِ فَإِنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ لَيْسَ عَلَى تَرْتِيبِ نُزُولِهَا وَالْمُعْتَبَرُ فِي النَّسْخِ تَأَخُّرُ النُّزُولِ لَا التَّأَخُّرُ فِي وَضْعِ الْمُصْحَفِ وَقَدْ رَوَيْنَا فِي بَحْثِ التَّخْصِيصِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: ٤] لَكِنْ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ هَذَا نَادِرٌ وَذَاكَ غَالِبٌ وَالْحَمْلُ عَلَى الْغَالِبِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَمْلِ عَلَى النَّادِرِ وَمَرْوِيُّ حَدِيثِ السِّنِّ مُتَقَدِّمًا عَلَى كَبِيرِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَنْقَطِعَ صُحْبَةُ الْأَوَّلِ قَبْلَ صُحْبَةِ الثَّانِي فَيُرْجَعُ إلَى مَا عُلِمَ تَقَدُّمُ تَارِيخِهِ وَمَرْوِيُّ مُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامِ مُتَقَدِّمًا عَلَى قَدِيمِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ سَمِعَهُ بَعْدَ مُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ تَنْقَطِعَ صُحْبَةُ الْأَوَّلِ بِمَوْتٍ وَنَحْوِهِ
(وَكَذَا) لَيْسَ مِنْ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ لِتَعَيُّنِ النَّاسِخِ مَا قِيلَ (مُوَافَقَتُهُ) أَيْ أَحَدِ النَّصَّيْنِ (لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِهِ) عَنْ الْمُخَالِفِ لَهَا (لِفَائِدَةِ رَفْعِ الْمُخَالِفِ) أَيْ لِأَنَّهُ يُفِيدُ فَائِدَةً جَدِيدَةً وَهِيَ رَفْعُ الْحُكْمِ الْمُخَالِفِ لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ لَهَا (بِخِلَافِ الْقَلْبِ) أَيْ جَعْلِ الدَّالِّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لَهَا مُتَأَخِّرًا عَنْ الدَّالِّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فَإِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَأْكِيدٌ لِلْأَصْلِ وَالتَّأْسِيسُ خَيْرٌ مِنْ التَّأْكِيدِ وَأُورِد بِأَنَّ هَذَا مُعَارِضٌ بِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَزِمَ نَسْخُ حُكْمِ الْأَصْلِ، ثُمَّ نُسِخَ رَافِعُهُ بِالْمُوَافِقِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ وَلَوْ تَقَدَّمَ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا نَسْخٌ وَاحِدٌ وَالْأَصْلُ تَقْلِيلُ النَّسْخِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ رَفْعَ الْحُكْمِ بِأَنَّ رَفْعَ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ لَيْسَ نَسْخًا عَلَى مَا عُرِفَ فَاسْتَوَيَا نَعَمْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى غَيْرِ الْقَائِلِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ رَفْعَ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ نَسْخٌ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ هَذَا طَرِيقًا صَحِيحًا لِتَعْيِينِ النَّاسِخِ (فَإِنَّ حَاصِلَهُ نَسْخٌ اجْتِهَادِيٌّ كَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ) هَذَا نَاسِخٌ (اجْتِهَادًا) عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعَارَضَ بِأَنَّ تَأَخُّرَ الْمُوَافِقِ يَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَيْنِ وَتَقَدُّمَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ إلَّا تَغْيِيرًا وَاحِدًا وَالْأَصْلُ قِلَّةُ التَّغْيِيرِ
(وَمَا قِيلَ) وَقَائِلُهُ التَّفْتَازَانِيُّ (مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ مَا عُلِمَ بِالْأَصْلِ ثَابِتًا عِنْدَ الشَّرْعِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ) وَلَعَلَّهُ سَبْقُ قَلَمٍ إذْ الْوَجْهُ حَذْفُهُ أَوْ فَهُوَ (مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَسْمِيَةِ الشَّارِعِ رَفْعَهُ) أَيْ رَفْعَ حُكْمِ الْأَصْلِ (نَسْخًا وَهُوَ) أَيْ وَكَوْنُ رَفْعِهِ يُسَمَّى نَسْخًا شَرْعًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute