مُتَعَيِّنٌ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَمَنْ أَخْطَأَهُ فَهُوَ آثِمٌ غَيْرُ كَافِرٍ وَيَفْسُقُ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ بَرْهَانٍ وَلَا يَفْسُقُ عَلَى مَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا لَا يُعْبَأُ بِهِ (لِدَلَالَةِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى نَفْيِهِ) أَيْ تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ فِيهَا (إذْ شَاعَ اخْتِلَافُهُمْ) فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ مَعَ الْجَمِيعِ (وَلَمْ يُنْقَلْ تَأْثِيمٌ) مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مُعَيَّنٌ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ: الْآخَرُ آثِمٌ وَلَا مُبْهَمٌ بِأَنْ يَقُولُوا: أَحَدُنَا آثِمٌ (وَلَوْ كَانَ) أَيْ وُجِدَ الْإِثْمُ لِلْمُخْطِئِ (لَوَقَعَ) ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ خَطِيرٌ مِنْ الْمُهِمَّاتِ، وَلَوْ ذُكِرَ لَنُقِلَ وَاشْتُهِرَ وَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ تَأْثِيمٌ عُلِمَ قَطْعًا عَدَمُ الْإِثْمِ.
(وَلَوْ اُسْتُؤْنِسَ لَهُمَا) أَيْ بِشْرٍ وَالْأَصَمِّ (بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا) ذَكَرَهُ فِي التَّقْوِيمِ (أَمْكَنَ) الْقَدْحُ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ التَّأْثِيمِ بِهِ لَكِنَّ هَذَا إذَا اُتُّبِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مِثْلِهِ (لَكِنَّهُ) أَيْ ابْنَ عَبَّاسٍ (لَمْ يُتَّبَعْ عَلَى مِثْلِهِ إذْ وَقَائِعُ الْخِلَافِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَلَا تَأْثِيمَ) مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيهَا مَنْقُولٌ عَنْهُمْ، وَقَالَ (الْجَاحِظُ: لَا إثْمَ عَلَى مُجْتَهِدٍ، وَلَوْ) كَانَ الِاجْتِهَادُ (فِي نَفْيِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ) كَانَ نَفْيُهُ اجْتِهَادًا (مِمَّنْ لَيْسَ مُسْلِمًا وَتَجْرِي عَلَيْهِ) أَيْ النَّافِي فِي الدُّنْيَا (أَحْكَامُ الْكُفَّارِ، وَهُوَ) أَيْ نَفْيُ الْإِثْمِ (مُرَادُ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ قَاضِي الْبَصْرَةِ الْمُعْتَزِلِيِّ (الْعَنْبَرِيِّ بِقَوْلِهِ: الْمُجْتَهِدُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُصِيبٌ وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ هَذَا بَلْ أَرَادَ وُقُوعَ مُعْتَقَدِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ) فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ بِتَقْدِيرِ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ كَالْقِدَمِ، وَالْحُدُوثِ فِي اعْتِقَادِ قَدِمَ الْعَالَمِ وَحُدُوثِهِ (فِي نَفْسِ الْأَمْرِ) فَخَرَجَ عَنْ الْمَعْقُولِ؛ لِأَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَكُونَانِ حَقَّيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هَذَا مَا مَشَى عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ وَنَفَى السُّبْكِيُّ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ نَفْيَ الْإِثْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ الْجَاحِظِ بِلَا زِيَادَةٍ بَلْ أَرَادَ أَنَّ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ سَوَاءٌ وَافَقَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْ لَا وَوَافَقَهُ الْكَرْمَانِيُّ عَلَى هَذَا وَتَعَقَّبَهُ التَّفْتَازَانِيُّ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ الَّتِي لَا دَخْلَ فِيهَا الْوَضْعُ الشَّارِعُ كَكَوْنِ الْعَالَمِ قَدِيمًا وَكَوْنِ الصَّانِعِ مُمْكِنَ الرُّؤْيَةِ، أَوْ مُمْتَنِعَهَا
ثُمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ ثُمَّ قِيلَ: إنَّهُ عُمِّمَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ حَتَّى يَشْمَلَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ وَإِنَّ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسَ عَلَى صَوَابٍ، وَهَذَا مَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَيَرْجِعُ الْمُخَالِفُونَ فِيهَا إلَى آيَاتٍ وَآثَارٍ مُحْتَمَلَةٍ لِلتَّأْوِيلِ كَالرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ.
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ كَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوس فَإِنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ حَكَاهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ ثُمَّ قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّا لَا نَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَقْطَعُ بِتَضْلِيلِ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوس وَأَنَّ قَوْلَهُمْ بَاطِلٌ قَطْعًا وَلِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْقَطْعِيَّةَ قَامَتْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي بُطْلَانِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ، وَالدَّلَائِلُ الْقَطْعِيَّةُ تُوجِبُ الِاعْتِقَادَ الْقَطْعِيَّ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ مُخْطِئُونَ قَطْعًا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِيمَا يُخَالِفُنَا فِيهِ أَهْلُ الْمِلَلِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يُخَالِفُنَا فِيهِ الْقَدَرِيَّةُ، وَالْمُجَسِّمَةُ، وَالْجَهْمِيَّةُ، وَالرَّوَافِضُ، وَالْخَوَارِجُ وَسَائِرُ مَنْ يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ الدَّلَائِلَ الْقَطْعِيَّةَ قَدْ قَامَتْ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا يُوَافِقُ عَقَائِدَهُمْ فَيَثْبُتُ مَا اعْتَقَدُوهُ قَطْعًا، وَإِذَا ثَبَتَ مَا اعْتَقَدُوهُ قَطْعًا حُكِمَ بِبُطْلَانِ مَا يُخَالِفُهُ قَطْعًا، وَإِذَا حُكِمَ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ قَطْعًا ثَبَتَ أَنَّهُمْ ضُلَّالٌ وَمُبْتَدِعَةٌ انْتَهَى.
وَمَشَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِمَذْهَبِ الْعَنْبَرِيِّ الْكَرْمَانِيُّ وَالتَّفْتَازَانِي وَاسْتَشْهَدَ السُّبْكِيُّ لَهُ بِمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مُثْبِتِي الْقَدْرِ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَفِي نَافِيهِ: هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمْ ثُمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ: وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي حَمْلُ مَذْهَبِ الْجَاحِظِ أَيْضًا وَلَكِنْ صَرَّحَ الْقَاضِي عَنْهُ فِي التَّقْرِيبِ بِخِلَافِهِ فَانْتَفَى مَا فِي حَاشِيَةِ الْأَبْهَرِيِّ وَقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي الْكَافِرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِاسْتِبْعَادِ الْخِلَافِ مِنْ الْمُسْلِمِ فِي كَوْنِ الْيَهُودِيِّ مُخْطِئًا فِي نَفْيِهِ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْيَهُودِيَّ غَيْرُ مُخْطِئٍ فِي نَفْيِ رِسَالَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُجَسِّمَةَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ غَيْرُ مُخْطِئَةٍ فِي أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ وَفِي جِهَةٍ انْتَهَى.
(لَنَا إجْمَاعُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute