للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ أَيْضًا الَّذِي عَلَيْهِ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْعَامِّيَّ مُقَلِّدٌ لِلْمُجْتَهِدِ فِيمَا يَأْخُذُهُ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ الْمَشْهُورُ فَلَا جَرَمَ أَنْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدَيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَوْ سَمَّى الرُّجُوعَ إلَى الرَّسُولِ أَوْ إلَى الْإِجْمَاعِ وَالْمُفْتِي وَالشُّهُودِ تَقْلِيدًا فَلَا مُشَاحَّةَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصْطَلِحَ عَلَى مَا شَاءَ بَعْدَ رِعَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (بَلْ الْمُجْتَهِدُ وَالْعَامِّيُّ إلَى مِثْلِهِ، وَإِلَى الْمُفْتِي) أَيْ بَلْ التَّقْلِيدُ رُجُوعُ الْمُجْتَهِدِ إلَى مِثْلِهِ وَالْعَامِّيِّ إلَى مِثْلِهِ، وَإِلَى الْمُفْتِي أَيْضًا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ (هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ تَقْلِيدِ عَامَّةِ مِصْرَ الشَّافِعِيَّ وَنَحْوَهُ) وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ كَمَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِأَخْذِ الْقَوْلِ بِغَيْرِ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ فَخَرَجَ أَخْذُهُ مَعَ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ، وَإِنْ وَافَقَ قَوْلَ مُجْتَهِدٍ بِهِ فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَخْذٌ مِنْ الدَّلِيلِ لَا مِنْ الْمُجْتَهِدِ بَلْ قَدْ قِيلَ: إنَّ أَخْذَهُ مَعَ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ نَتِيجَةُ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الدَّلِيلِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمُجْتَهِدِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ سَلَامَتِهِ مِنْ الْمُعَارِضِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْبَحْثِ عَنْهُ، وَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى اسْتِقْرَاءِ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا الْمُجْتَهِدُ بَقِيَ أَخْذُ الْمُجْتَهِدِ بِقَوْلِ الْعَامِّيِّ فَجَزَمَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَوْعِ اجْتِهَادٍ.

قُلْت: وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ كَمَا فِي الرُّجُوعِ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ إلَى الْعَامِّيِّ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهَا نَعَمْ إنْ كَانَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ اصْطِلَاحٍ فَلَا مُشَاحَّةَ فِيهِ ثُمَّ قِيلَ عَلَى هَذَا يُسَمَّى الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقْلِيدًا إذَا قُلْنَا كَانَ يَقُولُ عَنْ قِيَاسٍ أَيْضًا وَلَمْ يَدْرِ قَالَ ذَلِكَ عَنْ وَحَيٍّ أَوْ قِيَاسٍ قُلْت وَحَيْثُ كَانَ الْمُسَوِّغُ لِتَسْمِيَتِهِ تَقْلِيدًا عَدَمَ الْعِلْمِ بِأَخْذِهِ مِنْ الْوَحْيِ عَيْنًا وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقَرُّ عَلَى خَطَأٍ عَلَى تَقْدِيرِ تَعَبُّدِهِ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ لِلْوَحْيِ، وَأَنَّهُ وَحَيٌّ بَاطِنٌ كَمَا تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ فَلَا يُسَمَّى تَقْلِيدَ التَّعَيُّنِ كَوْنُهُ عَنْ الْوَحْيِ هَذَا، وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الرَّأْيُ فَيَشْمَلُ مَا كَانَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ التَّفْتَازَانِيِّ وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ مَا يَعُمُّ الْفِعْلَ وَالتَّقْرِيرَ تَغْلِيبًا وَقَوْلُ الْأَبْهَرِيِّ هُوَ أَعَمُّ مِنْ اللَّفْظِيِّ وَالنَّفْسِيِّ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ خُرُوجِ الْأَخْذِ بِفِعْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ عَنْهُ ثُمَّ غَيْرُ خَافٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَأْخُوذُ بِهِ لَهُ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ بِالْمَأْخُوذِ عَنْهُ لِيَخْرُجَ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْمَأْخُوذِ عَنْهُ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَانَ الْوَجْهُ جَعْلَ الْمُعَرَّفِ بِمَا ذُكِرَ التَّقَلُّدُ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُقَلِّدَ (جَعَلَ قَوْلَهُ) أَيْ مَنْ قَلَّدَهُ (قِلَادَةً) فِي عُنُقِهِ وَهَذَا تَقَلُّدٌ لَا تَقْلِيدٌ (فَتَصْحِيحُهُ) أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ (جَعَلَ عَمَلَهُ قِلَادَةَ إمَامِهِ) الَّذِي قَلَّدَهُ فَكَأَنَّهُ يُطَوِّقُهُ مَا فِيهِ مِنْ تَبِعَةٍ إنْ كَانَتْ.

(وَالْمُفْتِي الْمُجْتَهِدُ وَهُوَ الْفَقِيهُ) أَيْضًا اصْطِلَاحًا أُصُولِيًّا كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَائِلِ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَامَتْ بِهِ صِفَةٌ جَازَ أَنْ يُشْتَقَّ لَهُ مِنْهَا اسْمُ فَاعِلٍ فَلَا جَرَمَ إنْ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ مَوْضُوعُ هَذَا الِاسْمِ لِمَنْ قَامَ لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ وَعَلِمَ جُمَلَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَكَذَلِكَ فِي السُّنَنِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَلَمْ يُوضَعَ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْمُفْتِي مَنْ اُسْتُكْمِلَ فِيهِ ثَلَاثُ شَرَائِطَ الِاجْتِهَادُ وَالْعَدَالَةُ وَالْكَفُّ عَنْ التَّرْخِيصِ وَالتَّسَاهُلِ.

وَلِلْمُتَسَاهِلِ حَالَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي طَلَبِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ وَيَأْخُذَ بِبَادِئِ النَّظَرِ وَأَوَائِلِ الْفِكَرِ فَهَذَا مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى. وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي طَلَبِ الرُّخَصِ وَتَأَوُّلِ السُّنَّةِ فَهَذَا مُتَجَوِّزٌ فِي دَيْنِهِ وَهُوَ آثَمُ مِنْ الْأَوَّلِ اهـ. وَفِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ يَحْرُمُ تَسَاهُلُ الْمُفْتِي وَتَقْلِيدٌ مَعْرُوفٌ بِهِ وَفِي شَرْحِ الْبَدِيعِ لِلْهِنْدِيِّ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا ثِقَةً حَتَّى يُوثَقَ بِهِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ اهـ.

يَعْنِي فَهَذَا مِنْ شَرْطِ قَبُولِ فَتْوَاهُ لَا مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ اجْتِهَادِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَقَالَ أَحْمَدُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْتِيَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ قَوِيًّا عَلَى مَا هُوَ فِيهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالْكِفَايَةُ، وَإِلَّا مَضَغَهُ النَّاسُ، وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ.

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هَذِهِ الْخِصَالُ مُسْتَحَبَّةٌ فَيَقْصِدُ الْإِرْشَادَ، وَإِظْهَارَ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً وَالتَّنْوِيهَ بِاسْمِهِ، وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ يُرَغِّبُ الْمُسْتَفْتِيَ وَهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِهِمْ وَالْكِفَايَةِ لِئَلَّا يَنْسُبُهُ النَّاسُ إلَى التَّكَسُّبِ بِالْعِلْمِ وَأَخْذِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>