وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْقَوْلُ (خَلِيقٌ بِالنَّفْيِ) أَيْ بِنَفْيِ الصِّحَّةِ (وَسَيَظْهَرُ) نَفْيُهَا، وَقَالَ (أَبُو الْحُسَيْنِ: لَا) يَجُوزُ إفْتَاءُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ بِمَذْهَبِ الْمُجْتَهِدِ (مُطْلَقًا) بِالْمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ كَالرُّويَانِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَمَعْنَاهُ عَنْ أَحْمَدَ (لَنَا وُقُوعُهُ) أَيْ إفْتَاءُ الْمُتَبَحِّرِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ بِمَذْهَبِ الْمُجْتَهِدِ (بِلَا نَكِيرٍ) فَإِنَّ الْمُتَبَحِّرِينَ مِنْ مُقَلِّدِي أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ مَا زَالُوا عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ يُفْتُونَ بِمَذَاهِبِ أَصْحَابِهَا مَعَ عَدَمِ بُلُوغِهِمْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ وَلَمْ يُنْكَرْ إفْتَاؤُهُمْ.
(وَيُنْكَرُ) الْإِفْتَاءُ (مِنْ غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الْمُتَبَحِّرِ بِمَذْهَبِ الْمُجْتَهِدِ فَكَانَ إجْمَاعًا عَلَى جَوَازِ فُتْيَا الْمُتَبَحِّرِ وَعَدَمِ جَوَازِ فُتْيَا غَيْرِهِ (فَإِنْ قِيلَ إذَا فُرِضَ عَدَمُ الْمُجْتَهِدِينَ) فِي حَالِ الِاتِّفَاقِ وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ (فَعَدَمُهُ) أَيْ الْإِنْكَارِ وَوُجُودُ الِاتِّفَاقِ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَكِلَاهُمَا (مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ حُجَّةً فَالْوَجْهُ كَوْنُهُ) أَيْ جَوَازُهُ (لِلضَّرُورَةِ إذَنْ) أَيْ لِفَقْدِ الْمُجْتَهِدِينَ (قُلْنَا: إنَّمَا يَلْزَمُ) كَوْنُهُ لِلضَّرُورَةِ (لَوْ مُنِعَ الِاجْتِهَادُ فِي مَسْأَلَةٍ) أَيْ تَجَزِّي الِاجْتِهَادِ إذْ الْمَفْرُوضُ أَنَّ الْمُفْتِيَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا قَادِرًا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي أُصُولِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ وَمِثْلُهُ لَهُ قُدْرَةُ الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةٍ (وَهُوَ) أَيْ مَنْعُ تَجَزِّي الِاجْتِهَادِ (مَمْنُوعٌ) فَالْمُتَّفِقُونَ حِينَئِذٍ عَلَى جَوَازِ هَذَا الْإِفْتَاءِ مُجْتَهِدُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُجْتَهِدِينَ مُطْلَقًا (فَكِلَاهُمَا) أَيْ الِاسْتِدْلَالِ بِالِاتِّفَاقِ بِلَا نَكِيرٍ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالضَّرُورَةِ (حَقٌّ) . فَأَمَّا إذَا لَمْ يُفْرَضْ فَقْدُ الْمُجْتَهِدِ فَمُسْتَنَدُ الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْإِفْتَاءِ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ بِمَذْهَبِ الْمُجْتَهِدِ إنَّمَا يَنْهَضُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ إذَا تَمَّ لَا بِالضَّرُورَةِ لِانْدِفَاعِهَا بِالْمُجْتَهِدِ الْمَوْجُودِ (وَبِهَذَا) الْجَوَابِ (بِدَفْعِ دَفْعِهِ) أَيْ دَفْعِ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ (لِدَلِيلِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ) أَيْ تَقْلِيدُهُ الْقَوْلُ (الْمُخْتَارُ وَهُوَ) أَيْ دَلِيلُ تَقْلِيدِهِ (أَنَّهُ) أَيْ تَقْلِيدَهُ (إجْمَاعٌ) لِوُقُوعِهِ فِي مَرِّ الْأَعْصَارِ بِلَا إنْكَارٍ (فَلَا يُعَارِضُهُ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلَ (قَوْلُهُمْ) أَيْ مَانِعِي تَقْلِيدِهِ كَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ (لَا قَوْلَ لَهُ) أَيْ لِلْمَيِّتِ (وَإِلَّا) لَوْ كَانَ لَهُ قَوْلٌ بَاقٍ (لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ كَ) مَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ (الْحَيِّ) فَإِنَّ هَذَا لَا يُعَارِضُ الْإِجْمَاعَ الْمَذْكُورَ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُعَارِضٌ بِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُجْمِعِينَ، وَالدَّفْعُ أَنْ يُقَالَ لَا عِبْرَةَ بِالِاتِّفَاقِ وَبِعَدَمِ إنْكَارِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْمُتَّفِقِينَ عَلَيْهِ لَيْسُوا مُجْتَهِدِينَ فَالْوَجْهُ كَوْنُهُ لِلضَّرُورَةِ. وَدَفْعُهُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ مُنِعَ تَجَزِّي الِاجْتِهَادِ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّقْرِيبُ ظَاهِرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ (الْمُجَوِّزِ) مُطْلَقًا قَالَ الْمُفْتِي (نَاقِلٌ) فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَغَيْرِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي رِوَايَةِ الْعِلْمِ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ (أُجِيبُ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي النَّقْلِ بَلْ فِي التَّخْرِيجِ، وَإِذَنْ سَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ لِظُهُورِ أَنَّ مُرَادَهُ) أَيْ قَائِلِهِ، وَهُوَ النَّقْلُ (اتِّفَاقٌ فَهِيَ) أَيْ الْأَقْوَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (ثَلَاثَةٌ) جَوَازُهُ لِلْمُتَبَحِّرِ جَوَازُهُ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُجْتَهِدِ وَقَدْ عُرِفَ وَجْهُهُمَا، لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا لِأَبِي الْحُسَيْنِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ قَالَ (أَبُو الْحُسَيْنِ: لَوْ جَازَ) الْإِفْتَاءُ لِلْمُتَبَحِّرِ (لَجَازَ لِلْعَامِّيِّ) بِجَامِعِ عَدَمِ بُلُوغِهِمَا رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَمَا أَبْعَدَهُ، وَالْفَرْقُ) بَيْنَهُمَا فِي الْوُضُوحِ (كَالشَّمْسِ) ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ جَوَّزَهُ لِلْعَالِمِ دُونَ الْعَامِّيِّ وَكَيْفَ لَا وَالْعَارِفُ بِالْمَآخِذِ بَعِيدٌ مِنْ الْخَطَأِ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَآخِذِ أَحْكَامِ إمَامِهِ بِخِلَافِ الْعَامِّيِّ فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ مِنْهُ الْخَطَأُ بَلْ يَكْثُرُ مِنْهُ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى الْمَأْخَذِ فَأَنَّى يَسْتَوِيَانِ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: ٩] . قُلْت وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال لَهُ بِأَنَّهُمَا فِي النَّقْلِ سَوَاءٌ كَمَا فِي الشَّرْحِ الْعَضُدِيِّ فَيُفِيدُ سُقُوطَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ فِي النَّقْلِ فَالْأَقْوَالُ فِيهَا قَوْلَانِ حِينَئِذٍ الْمُخْتَارُ وَالْمُسْتَغْرَبُ.
هَذَا وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِلْمُصَنِّفِ بَعْدَ أَنْ حَكَى أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُفْتِي إلَّا الْمُجْتَهِدُ قَالَ وَقَدْ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ فَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِمَّنْ يَحْفَظُ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِينَ فَلَيْسَ بِمُفْتٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إذَا سُئِلَ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ كَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ فَعُرِفَ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا لَيْسَ بِفَتْوَى بَلْ هُوَ نَقْلُ كَلَامِ الْمُفْتِي؛ لِيَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَفْتِي، وَطَرِيقُ نَقْلِهِ كَذَلِكَ عَنْ الْمُجْتَهِدِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَنَدٌ فِيهِ إلَيْهِ أَوْ يَأْخُذُهُ مِنْ كِتَابٍ مَعْرُوفٍ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي نَحْوَ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَنَحْوِهَا مِنْ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْهُمْ وَالْمَشْهُورِ، هَكَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute