للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما كان الضلال ناشئا عن أمرين:

إما تمويه الباطل حقا، إن كانت الدلائل قد بلغت المستمع، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه، أشار إلى الأمرين بلا تلبسوا وتكتموا، ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم، ثم أمرهم بعد تحصيل الإيمان، وإظهار الحق بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، لأن الصلاة آكد العبادات البدنية، والزكاة آكد العبادات المالية ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له- تعالى- مع جملة الخاضعين الطائعين.

فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم، وما بينهما من تكاليف اعتقادية، وأفعال بدنية ومالية، وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله- تعالى- على سائر الكلام، وهذه الأوامر والنواهي، وإن كانت خاصة ببني إسرائيل في الصورة، إلا أنها عامة في المعنى، فيجب على كل مكلف في كل زمان ومكان أن يعمل بها» «١» .

وبعد كل هذه الأوامر والنواهي، وبخهم الله- تعالى- وقرعهم على ارتكابهم لأمور لا تصدر عن عاقل. وهي أنهم يأمرون الناس بالخير ولا يفعلونه، فقال تعالى:

[[سورة البقرة (٢) : آية ٤٤]]

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤)

الأمر: طلب إيجاد الفعل. والبر: اسم يتناول كل عمل من أعمال الخير. والنسيان: ضد الذكر، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم. والعقل: يطلق على قوة في النفس، تستعد بها لقبول العلم. وإدراك الشيء.

والمعنى: كيف يليق بكم يا معشر اليهود، وأنتم تأمرون الناس بأمهات الفضائل، وألوان الخيرات، أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون به غيركم، وأنتم مع ذلك تقرأون توراتكم، وتدركون أى عقوبة أليمة لمن يأمر الناس بالخير وينسى نفسه، أفلا عقل لكم يحبسكم عن هذا السفه الذي ترديتم فيه، ويحذركم من سوء عاقبته؟

قال ابن عباس- رضي الله عنهما- كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره، ولذي قرابته، ولمن بينه وبينه صلة من المسلمين أثبت على الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا


(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ١ ص ١٨١ مطبعة السعادة: الطبعة الأولى سنة ١٣٣٢ هـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>