للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كانت هذه الكلمة وحدها بمثابة حركة تطويق للخصم تمت خطوة واحدة، وفي غير ما جلبة ولا طنطنة.

ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطوى الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد، استوى إلى الرد على المقصد الأصلى الذي تبجحوا بإعلانه والافتخار به، وهو دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، فأوسعهم إكذابا وتفنيدا. وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم، قد أشربوه في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضا مزمنا وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم، وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل لإنكارها في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه، وتمردهم على أوامره قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة، إذ يفهم السامع من تكذيبهم لما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين لكتابهم نفسه، وهل الذي يكذب من يصدقك يبقى مصدقا لك؟؟ ...

ثم انظر بعد أن سجل القرآن على بنى إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة. بعد كل ذلك تراه لا يزيد على أن يقول في أول الأمر: إن هذا «ظلم» ، وفي الثانية (بئسما) صنعتم، أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات؟ نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما، ولكن أين حدة الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام؟

بل أين الإقذاع والتشنيع؟ وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس، إذا أحفظوا بالنيل من مقامهم.

تالله ما أعف هذه الخصومة وما أعز هذا الجناب، وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين، وتالله إن هذا الكلام لا يصدر عن نفس بشر» «١» .

ثم أمر الله- تعالى- نبيه «صلّى الله عليه وسلّم» أن يرد على اليهود في دعواهم أن الجنة لن يدخلها إلا من كان على ملتهم فقال- تعالى-:

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)


(١) عن كتاب النَّبَإِ الْعَظِيمِ من ص ١١٤: ص ١٢٢ لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد الله دراز.

<<  <  ج: ص:  >  >>