كما بينا، والإشارة حينئذ من قبيل التكرير المغني عن العطف كما في قوله تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.
والمعنى أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا. وقتلهم أنبياءنا، وخروجهم عن طاعتنا وتعديهم لحدودنا.
وعلى هذا الرأى يكون ذكر أسباب العقوبة التي حلت بهم في الدرجة العليا من حسن الترتيب، فقد بدأ- سبحانه- بما فعلوه في حقه وهو كفرهم بآياته، ثم ثنى بما يتلوه في العظم وهو قتلهم لأنبيائه، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء، وتخطى الحدود، وعدم المبالاة بالعهود، وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم في سوق الأحكام، مشفوعة بعللها وأسبابها.
وبهذا تكون الآية الكريمة قد وصفت بنى إسرائيل بجحود النعم، وسوء الأدب وحمق التفكير، وهوان النفس، وبلادة الطبع، وبطر الحق، والبغي على أنفسهم وعلى غيرهم، وما وصفتهم به أيدته الأيام وصدقته الأحداث في كل زمان ومكان.
وبعد أن بين القرآن الكريم ما حل باليهود من عقوبات بسبب جحودهم لنعم الله، وكفرهم بآياته- أردف بذلك ما وعد الله به المؤمنين من جزيل الثواب.
فقال- تعالى-:
[[سورة البقرة (٢) : آية ٦٢]]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
ففي هذه الآية الكريمة حدثنا القرآن عن أربع فرق من الناس:
أما الفرقة الأولى: فهي فرقة الذين آمنوا، والمراد بهم الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وصدقوه.
وابتدأ القرآن بهم للإشعار بأن دين الإسلام دين قائم على أساس أن الفوز برضا الله لا ينال إلا بالإيمان الصادق والعمل الصالح، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك، كما قال- تعالى-:
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.
وأما الفرقة الثانية: فهي فرقة الذين هادوا، أى: صاروا يهودا، يقال: هاد وتهود، أى دخل في اليهودية، وسموا يهودا نسبة إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب- بقلب الذال دالا في