للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد رجح الإمام الرازي هذا الرأى فقال ما ملخصه: قال المفسرون: معنى الآية: ما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين.. ثم إن الله أخذ هؤلاء المتقدمين، دون أن تنفعهم قوتهم، لما كذبوا رسلهم، فكيف حال هؤلاء الضعفاء- وهم قومك.

ثم قال- رحمه الله-: وعندي وجه آخر في معنى الآية، وهو أن يقال: وكذب الذين من قبلهم، وما بلغوا معشار ما آتيناهم، أى: الذين من قبلهم ما بلغوا معشار ما آتينا قومك من البيان والبرهان. وذلك لأن كتابك يا محمد أكمل من سائر الكتب.

فإذا كنت قد أنكرت على المتقدمين لما كذبوا رسلهم- مع أنهم لم يؤتوا معشار ما أوتى قومك من البيان-، فكيف لا أنكر على قومك بعد تكذيبهم لأوضح الكتب، وأفصح الرسل.. «١»

ويبدو لنا أن المعنى الأول الذي عبر عنه الإمام الرازي بقوله: قال المفسرون، هو الأرجح لأنه هو المتبادر من معنى الآية الكريمة، لأنه يفيد التقليل من شأن مشركي مكة، بالنسبة لمن سبقهم من الأمم، من ناحية القوة والغنى.

وفي القرآن الكريم آيات متعددة تؤيد هذا المعنى، منها قوله- تعالى-: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «٢» .

وبعد هذا الحديث عن أقوال المشركين في شأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وفي شأن القرآن.. وبعد هذا الرد الملزم لهم، والمزهق لباطلهم. بعد كل ذلك لقن الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم الحجج القاطعة، والأقوال الحكيمة، التي تهدى إلى الرشد بأبلغ أسلوب، وأصدق بيان، فقال- تعالى-:

[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٦ الى ٥٠]

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)


(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٢٤.
(٢) سورة الروم. الآية ٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>