وإنما ذكر الأكل وأراد به مطلق الإتلاف على سبيل الظلم لأن الأكل عن طريقه تكون معظم تصرفات الإنسان، ولأن عامة مال اليتامى في ذلك الوقت هو الأنعام التي تؤكل لحومها وتشرب ألبانها فخرج الكلام على عادتهم، ولأن في ذكر الأكل تشنيعا على الآكل لمال اليتيم ظلما، إذ هو أبشع الأحوال التي يتناول مال اليتيم فيها ولأن في ذكر الأكل مناسبة للجزاء المذكور في قوله إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً حيث يكون الجزاء من جنس العمل.
قال فِي بُطُونِهِمْ مع أن الأكل لا يكون إلا في البطن، إما لأنه قد شاع في استعمالهم أن يقولوا: أكل فلان في بطنه يريدون ملء بطنه فكأنه قيل: إنما يأكلون ملء بطونهم نارا حتى يبشموا بها. ومثله قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أى شرقوا بها وقالوها بملء أفواههم، ويكون المراد بذكر البطون تصوير الأكل للسامع حتى تتأكد عنده بشاعة هذا الجرم بمزيد تصوير.
وإما أن يكون المراد بذكر البطون التأكيد والمبالغة كما في قوله تعالى وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ والطيران لا يكون إلا بالجناح. والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة.
وقوله تعالى وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً تأكيد لسوء عاقبتهم يوم القيامة.
وسَيَصْلَوْنَ مضارع صلى كرضى إذا قاسى حر النار بشدة.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وَسَيَصْلَوْنَ بضم ياء المضارعة والباقون بفتحها.
والسعير: هو النار المستعرة. يقال: سعرت النار أسعرها سعرا فهي مسعورة إذا أوقدتها وألهبتها.
وإنما قال سَعِيراً بالتنكير لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله تعالى: أى وسيدخلون نارا هائلة لا يعلم مقدار شدتها إلا الله عز وجل.
أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم أنه لما نزلت هذه الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه. فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد عليهم ذلك. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ الآية. فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم «١» .
قال الفخر الرازي: ومن الجهال من قال: صارت هذه الآية منسوخة بتلك. وهو بعيد، لأن هذه الآية في المنع من الظلم. وهذا لا يصير منسوخا. بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى