ومنها أن التخيير الوارد في الأحكام المختلفة بحرف التخيير إنما يجرى على ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحدا كما في كفارة اليمين وكفارة الفدية، أما إذا كان السبب مختلفا فإنه يخرج التخيير عن ظاهره- كما هنا-، ويكون الغرض بيان الحكم لكل واحد في نفسه، وذلك لأن قطع الطريق متنوع وبين أنواعه تتفاوت الجريمة: فقد يكون باستلاب المال فقط، وقد يكون بالقتل فقط، وقد يكون بهما ومادام الأمر كذلك وجب أن يكون العقاب مختلفا ووجب أن يحمل ظاهر النص على غير التخيير. بأن يحمل على بيان الحكم لكل نوع.
قالوا: ونظير ذلك قوله- تعالى- قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً فإنه ليس الغرض التخيير وإنما الغرض: ليكن شأنك مع قومك تعذيب من جحد وظلم، والإحسان إلى من آمن وعمل صالحا.
وإنما قلنا: ليس الغرض التخيير، لأنه لا يمكن أن يكون له الحق في أى الأمرين من غير مرجح لأحدهما في الاعتبار، إذ منطق العدالة يقتضى أن يكون العذاب لمن فسق وجحد، وأن يكون الإحسان لمن آمن واستقام.
قال بعض العلماء: «وإن الفقه في التفرقة بين الرأيين أن الرأى الثاني يحدد جرائم معينة، ويعتبرها موضوع قطع بفعلها أو بالشروع فيها وهي القتل والسرقة. وأن الجرائم لا تخلو عن ذلك، ولذلك كانت العقوبات مترددة بين القطع والقتل، وأنه يكون ثمة تغليظ إذا ارتكبت الجريمتان معا.
وإن كان الشروع بالتجمع واتخاذ الأسباب، فإن العقوبة تكون بمنع الجريمة من الوقوع باتخاذ أسباب الوقاية بالنفي من الأرض، ولذلك كان التنويع، وكان تخريج حرف أَوْ على ذلك الأساس، ليكون التكافؤ بين الجريمة والعقوبة، وإن لم تكن جريمة كانت الوقاية.
أما الرأى الأول فهو يتجه إلى أن عقوبة الحرابة لذات الحرابة والسعى في الأرض بالفساد، ومنع الناس من السير والاستمتاع بأموالهم وحرياتهم الشخصية. وظاهر هذا الرأى أنه لا ينظر إلا إلى ذات الحرابة التي هي التخويف والإرهاب، ولا ينظر إلى الجرائم التي ارتكبوها فعلا، ولذلك يعمم الجرائم ولا يقصرها على القتل والسرقة كالرأى الثاني.
ويرى أن العقوبات في جملتها هي لعلاج ذلك الشر، وحسم مادته، والقضاء على التفكير لمن يهم بمحاكاة من وقعوا فيه، ولذلك يجب إطلاق يد ولى الأمر واعتبار تلك العقوبات في يده كالدواء بين يدي الطبيب، يختار من أصنافه ما يراه أنجح في علاج الآفة التي أصابت الجسم الاجتماعى.
وإنا نرى الرأى الثاني بالنسبة لتنويع العقاب، ونرى الرأى الأول بالنسبة لتعميم الجرائم