للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الله- تعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ «١» .

وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وفَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.

قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود. وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا «٢» . وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق. فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا خوفا منكم، فأما إذ قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا نعطيكم، فكادت الحرب تهيج بينهما. ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما بينهم. ثم ذكرت العزيزة فقالت:

والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم. ولقد صدقوا. ما أعطونا هذا إلا خوفا منا. فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه. إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم لا تحكموه. فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوه أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا. فأنزل الله- تعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ إلى قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «٣» .

قال ابن كثير- بعد أن ساق هذه الأحاديث وغيرها- فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بما يوافق حكم التوراة. وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله- تعالى- إليه بذلك وسؤالهم إياه عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطأوا على كتمانه وجحوده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة. فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه، ظهر زيفهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ، أى: إن حكم بالجلد والتحميم فاقبلوا حكمه، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أى: وإن لم يحكم بذلك فاحذروا من قبوله واتباعه «٤» .


(١) صحيح مسلم- كتاب الحدود ج ٥ ص ١٢٢ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٣٨٠ هـ
(٢) الوسق: ستون صاعا.
(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦٠
(٤) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨

<<  <  ج: ص:  >  >>