فالجواب، أن الكلام مسوق على سبيل المشاكلة، والمجاراة لتفكير اليهود الفاسد، وزعمهم الباطل، فكأنه- سبحانه- يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم إن هؤلاء اليهود- يا محمد- ينكرون عليكم إيمانكم بالله وبالكتب السماوية ويعتبرون ذلك شرا- مع أنه عين الخير- قل لهم على سبيل التبكيت وإلزامهم الحجة:
لئن كنتم تعيبون علينا إيماننا وتعتبرونه شرا لا خير فيه- في زعمكم فشر منه عاقبة ومآلا ما أنتم عليه من لعن وطرد من رحمة الله، وما أصاب أسلافكم من مسخ بعضهم قردة، وبعضهم خنازير، وما عرف عنكم من عبادة لغير الله ... وشبيه بهذه الآية في مجاراة الخصم في زعمه قوله- تعالى- وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «١» .
وقوله: أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ بيان لسوء عاقبتهم وقبح مكانتهم..
أى: أولئك المتصفون بما ذكر من الفسوق واللعن والطرد من رحمة الله أولئك المتصفون بذلك شَرٌّ مَكاناً من غيرهم وأكثر ضلالا عن طريق الحق المستقيم من سواهم، فهم في الدنيا يشركون بالله، وينتهكون محارمه وفي الآخرة مأواهم النار وبئس القرار.
وقوله أُولئِكَ مبتدأ وقوله شَرٌّ خبره، وقوله مَكاناً تمييز محول عن الفاعل.
وأثبت- سبحانه- الشرية لمكانهم ليكون أبلغ في الدلالة على كثرة شرورهم، إذ أن إثبات الشرية لمكان الشيء كناية عن إثباتها للشيء نفسه. فكأن شرهم قد أثر في مكانهم، أو عظم وضخم حتى صار متجسما.
وقوله: وَأَضَلُّ معطوف على شَرٌّ مقرر له. والمقصود من صيغتي التفضيل في قوله:
أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ الزيادة مطلقا من غير نظر إلى مشاركة غيرهم في ذلك. أو بالنسبة إلى غيرهم من الكفار الذين لم يفجروا فجورهم، ولم يحقدوا على المؤمنين حقدهم.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك بعض مظاهر نفاقهم وخداعهم فقال: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ.
قال الآلوسى: نزلت كما قال قتادة والسدى- في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظهرون له الإيمان والرضا بما جاء به نفاقا.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. والضمير في جاؤُكُمْ يعود على اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
(١) سورة سبأ الآية ٢٤.