قلت: معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه. فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها. أى: تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك: دمعت عينه دمعا.
فإن قلت: أى فرق بين من ومن في قوله: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ؟ قلت: الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق وكان من أجله وبسببه، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق، فأبكاهم وبلغ منهم فكيف إذا عرفوه كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة؟ «١» .
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه بعد سماعهم للحق فقال: يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ.
أى: يقولون بعد أن سمعوا الحق: يا ربنا إننا آمنا بما سمعنا إيمانا صادقا فاكتبنا مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي آمنت به وشهدت بصدق رسولك محمد صلى الله عليه وسلم وبصدق كل رسول أرسلته إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك عنهم ما علمه منهم من إصرارهم على الدخول في الدين الحق، فقال. وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ.
فالآية الكريمة من تتمة قولهم.
والاستفهام هنا لإنكار انتفاء الإيمان منهم مع قيام موجباته، وظهور أماراته ووضوح أدلته وشواهده.
والمعنى: وأى مانع يمنعنا من الإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، وبما جاءنا على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من قرآن يهدى إلى الرشد ومن توجيهات توصل إلى السعادة ونحن نطمع أن يدخلنا ربنا- بسبب إيماننا- مع القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقيدة السليمة، وبالعبادات الصحيحة وبالأخلاق الفاضلة وهم أتباع هذا النبي الأمى محمد صلى الله عليه وسلم فأنت تراهم بعد أن استمعوا إلى القرآن تأثرت نفوسهم به تأثرا شديدا فاضت معه أعينهم بالدمع. ثم بعد ذلك التمسوا من الله- تعالى- أن يكتبهم مع الأمة الإسلامية التي تشهد على غيرها يوم القيامة. ثم بعد ذلك استنكروا واستبعدوا أن يعوقهم معوق عن الإيمان الصحيح مع قيام موجباته. وهذا