للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله تعالى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ زيادة تشنيع عليهم، حيث إنهم حرفوا كلام الله بعد فهمهم له عن تعمد وسوء نية، وارتكبوا هذا الفعل الشنيع، رغم علمهم بما يستحقه مرتكبه من عقوبة دنيوية وأخروية.

ففي هذين القيدين من النعي عليهم ما لا مزيد عليه، حيث أبطل بهما عذر الجهل والنسيان، وسجل عليهم تعمد الفسوق والعصيان.

وإنما كان قيام الفريق من أحبار اليهود بتحريف الكتاب سببا في اليأس من إيمان عامتهم، لأن هؤلاء العامة المقلدون، قد تلقوا دينهم عن قوم فاسقين، دون أن يلتفتوا إلى الحق، أو يتجهوا إلى النظر في الأدلة الموصلة إليه، وأمثال هؤلاء الذين شبوا على عماية التقليد، وغواية الشيطان، لا يرجى منهم الوصول إلى نور الحق، وجلال الصدق، ولأن أمة بلغ الحال بعلمائها- وهم مظهر محامدهم- أن يجرؤوا على كلام الله فيحرفوه لا تنتظر من دهمائها أن يكونوا خيرا منهم حالا أو أسعد مآلا.

ثم أخبر القرآن الكريم عن بعضهم، بأنهم قد ضموا إلى رذيلة التحريف رذيلة النفاق والتدليس فقال تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ. أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ.

والمعنى: وإذا ما تلاقى المنافقون من اليهود مع المؤمنين، قالوا لهم نفاقا وخداعا. صدقنا أن ما أنتم عليه هو الحق. وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول من عند الله، وإذا ما انفرد بعض اليهود ببعض قال الذين لم ينافقوا لإخوانهم الذين نافقوا معاتبين: أتخبرون المؤمنين بما بينه الله لكم في كتابكم مما يشهد بحقية ما هم عليه، لتكون لهم الحجة عليكم يوم القيامة، أفلا تعقلون أن هذا التحديث يقيم الحجة لهم عليكم؟

فالآية الكريمة فيها بيان لنوع آخر من مساوئ اليهود ومخازيهم التي تدعو إلى اليأس من إيمانهم وتكشف النقاب عما كانوا يضمرونه من تدليس «١» .

قال الإمام الرازي: «وإنما عذلوهم على ذلك لأن اليهودي إذا اعترف بصحة التوراة، واعترف بشهادتها على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت الحجة قوية عليه، فلا جرم كان بعضهم يمنع بعضا من الاعتراف بذلك أمام المؤمنين» «٢» .


(١) والضمير في (قالوا) الأولى يعود إلى فريق اليهود الذين أظهروا الإسلام نفاقا، وفي (قالوا) الثانية يعود إلى فريق اليهود الذين بقوا على يهوديتهم، والذين كانوا يلومون من نافقوا منهم لتحديثه المؤمنين بما يشهد بصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم.
(٢) تفسير الرازي ج ١ ص ٤٠٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>