والغارة. فلم يكن بد في الحكمة الإلهية من وازع يزعهم- أى يزجرهم- عن التنازع، ويحملهم على التآلف، ويرد الظالم عن المظلوم، فقد روى مالك أن عثمان بن عفان كان يقول: ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن» .
فجعل- سبحانه- الخليفة في الأرض حتى لا يكون الناس فوضى، وعظم في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته، فكان من لجأ إليه معصوما به، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه.
ولما كان لهذا البيت موضع مخصوص- ومكان معين- لا يدركه كل مظلوم، فقد جعل- سبحانه- الأشهر الحرم ملجأ آخر. وقرر في قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يروعون فيها سربا- أى نفسا- ولا يطلبون فيها دما، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه. ثم شرع لهم الهدى والقلائد، فكانوا إذا أخذوا بعيرا وأشعروه دما، أو علقوا عليه قلادة أو فعل ذلك الرجل بنفسه. لم يروعه أحد حيث لقيه» «١» .
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
يعود على الجعل المذكور الذي هو تصيير البيت الحرام وما عطف عليه قياما للناس، أى صلاحا لأحوالهم الدينية والدنيوية.
والمعنى: فعل الله- تعالى- ذلك لتعلموا أنه- سبحانه- يعلم علما تاما شاملا ما في السموات وما في الأرض، ولتوقنوا بأنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم، وهتاف أرواحهم. لأن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار ولجلب المصالح الدينية والدنيوية دليل على أنه- سبحانه- يعلم ما في السموات وما في الأرض. وعلى أنه بكل شيء عليم دون أن تخفى عليه خافية مما في هذا الكون: وكرر- سبحانه- «ما. وفي» في المعطوف والمعطوف عليه للإشارة إلى دقة العلم وشموله، وأنه- سبحانه- لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وقوله وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعميم إثر تخصيص. للتأكيد وقدم الخاص على العام ليكون ذكر الخاص كالدليل على العام.
قال الجمل: واسم الإشارة ذلِكَ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر لمبتدأ محذوف أى: الحكم الذي حكمناه ذلك لا غير.
والثاني: أنه مبتدأ وخبره محذوف أى: ذلك الحكم هو الحق لا غيره.