للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اربعوا على أنفسكم- أى ارفقوا بها- وأقصروا من الصياح- فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا.

إنه معكم. إنه سميع قريب. تبارك اسمه وتعالى جده» «١» .

وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة، عن الحسن قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل، لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلى الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور- أى الزوار- وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم.

وذلك أن الله- تعالى- يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضى فعله وهو زكريا فقال: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا «٢» .

وقال ابن المنير: «وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية، فالاخلال بالضراعة إلى الله إخلال بالدعاء. وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى. فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا وقار يصحبه. وترى كثيرا من أهل زمانك يعمدون إلى الصراخ والصياح في الدعاء خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللفظ ويشتد، وتستك المسامع وتنسد، ويهتز الداعي بالناس، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين: رفع الصوت في الدعاء وفي المسجد، وربما حصلت للعوام حينئذ رقة لا تحصل مع خفض الصوت، ورعاية سمت الوقار، وسلوك السنة الثابتة بالآثار. وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال ليست خارجة عن صميم الفؤاد، لأنها لو كانت من أصل لكانت عند اتباع السنة في الدعاء. وفي خفض الصوت به أوفر وأوفى وأزكى فما أكثر التباس الباطل بالحق على عقول كثير من الخلق. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه» «٣» .

وقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الاعتداء تجاوز الحد أى: لا يحب المتجاوزين حدودهم في كل شيء، ويدخل فيه الاعتداء في الدعاء دخولا أوليا. ومن مظاهر الاعتداء في الدعاء أن يترك هذين الأمرين وهما التضرع والإخفاء، كذلك من مظاهر الاعتداء في الدعاء أن يتكلف فيه.

روى أبو داود في سننه أن سعد بن أبى وقاص سمع ابنا له يدعو ويقول: اللهم إنى أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها. فقال له يا بنى: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ثم قرأ سعد هذه


(١) أخرجه البخاري- واللفظ له- في كتاب الجهاد. باب ما يكره من رفع الصوت: وأخرجه مسلم في كتاب «الذكر والدعاء» .
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٣.
(٣) الانتصاف على الكشاف لابن المنير ج ٢ ص ١١٠ من تفسير الكشاف.

<<  <  ج: ص:  >  >>