للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هو مطلق حياة كيفما كانت، بصرف النظر عن العزة والكرامة، فمن أمثال اليهود المشهورة «الحياة وكفى» .

ولا شك أن شدة التهالك على الحياة، تؤدى إلى الجبن، واحتمال الضيم، وتجعل الأمة التي تنتشر فيها هذه الرذيلة لا تفرق بين الحياة الكريمة والحياة الذليلة.

وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عطف على الناس، لأنه لما كان قوله تعالى: أَحْرَصَ النَّاسِ في معنى: أحرص من جميع الناس صح أن يراعى المعنى، فيكون قوله: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا معطوف عليه، فيكون المعنى: أحرص من جميع الناس، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة.

والذين أشركوا، هم الذين جعلوا لله شركاء وإنما أفردوا بالذكر مع أنهم من الناس، مبالغة في توبيخ اليهود وذمهم، لأنهم إذا زاد حرصهم على الحياة- وهم أهل كتاب- على المشركين الذين لا كتاب لهم ولا يدينون ببعث أو نشور كان ذلك دليلا على هوان نفوسهم، وابتذال كرامتهم وعدم اعتدادهم بوصايا كتبهم التي تنهاهم عن الحرص على الحياة الذليلة.

قال صاحب الكشاف: «وفيه توبيخ عظيم، لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم، فإذا زاد عليها في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء، كان حقيقا بأعظم التوبيخ، فإن قلت: لم زاد حرصهم على حرص المشركين؟ قلت: لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك» «١» .

ثم بين- سبحانه- مظهرا من مظاهر حرصهم على الحياة فقال تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ أى يتمنى الواحد منهم أن يعيش دهورا كثيرة، ليس من عادة الناس أن يحبوا بلوغها، لأنها تؤدى بهم إلى أرذل العمر، وعدم طيب العيش.

فالجملة الكريمة مستأنفة لإظهار مغالاتهم في التهالك على الدنيا ولتحقيق عموم النوعية في الحياة المنكرة، ولدفع ما يظنه بعض الناس من أن حرصهم على الحياة مهما اشتد فلن يصل بهم إلى تمنى أن يعيش الواحد منهم ألف عام، أو أكثر، فجيء بهذه الجملة الكريمة. لتحقيق أن تعلقهم بالدنيا يشمل حتى هذه السن المتطاولة، التي لا هناء فيها ولا راحة، والتي استعاذ من بلوغها المؤمنون.

ثم بين- سبحانه- أن تعميرهم الطويل لن ينجيهم من العقوبة، لأن الموت لا يتركهم مهما


(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٢٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>