والاستثناء في قوله: إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها مفرغ من أعم الأحوال، وأَخَذْنا في موضع نصب على الحال من فاعل أَرْسَلْنا أى: وما أرسلنا- في قرية من القرى المهلكة بسبب ذنوبها- نبيا من الأنبياء في حال من الأحوال إلا حال كوننا آخذين أهلها بالبأساء والضراء. قبل إنزال العقوبة المستأصلة لهم.
وجملة لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ تعليلية. أى: فعلنا ما فعلنا لكي يتضرعوا ويتذللوا ويتوبوا من ذنوبهم.
فما يأخذ الله به الغافلين من الشدائد والمحن ليس من أجل التسلية والتشفي- تعالى الله عن ذلك- وإنما من أجل أن ترق القلوب الجامدة، وتتعظ المشاعر الخامدة، ويتجه البشر الضعاف إلى خالقهم، يتضرعون إليه ويستغفرونه، عما فرط منهم من خطايا.
ثم بين- سبحانه- لونا آخر من ألوان ابتلائه للناس فقال: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ المراد بالسيئة ما يسوء ويحزن كالشدائد والأمراض. وبالحسنة السعة والصحة وأنواع الخيرات.
أى: ثم بعد أن ابتلينا هؤلاء الغافلين بالبأساء والضراء رفعنا ذلك عنهم، وابتليناهم بضده، بأن أعطيناهم بدل المصائب نعما، فإذا الرخاء ينزل بهم مكان الشدة، واليسر مكان الحرج، والعافية بدل الضر، والذرية بدل العقم. والكثرة بدل القلة، والأمن محل الخوف.
قال الآلوسى: وقوله: ثُمَّ بَدَّلْنا معطوف على أَخَذْنا داخل في حكمه، وهو- أى بدلنا- متضمن معنى أعطى الناصب لمفعولين وهما هنا الضمير المحذوف والحسنة أى:
أعطيناهم الحسنة في مكان السيئة ومعنى كونها في مكانها أنها بدل منها.
ويرى بعض العلماء أن لفظ مَكانَ مفعول به لبدلنا وليس ظرفا، والمعنى بدلنا مكان الحال السيئة الحال الحسنة، فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة في مكان السيئة المتروكة «١» .
وقوله: حَتَّى عَفَوْا أى: كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم. يقال: عفا النبات، وعفا الشحم إذا كثر وتكاثف. وأعفيته. أى: تركته يعفو ويكثر، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «واعفوا اللحى» أى: وفروها وكثروها.
فماذا كان موقفهم من ابتلاء الله إياهم بالشدائد تارة وبالنعم أخرى؟ لقد كان موقفهم يدل على فساد فطرتهم، وانحطاط نفوسهم، وعدم اتعاظهم بما تجرى به الأقدار، وبما بين أيديهم من
(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٩. [.....]