صح ما توقعه، فإنهم بعد أن فارقهم موسى استغلوا جانب اللين في هارون فعبدوا عجلا جسدا له خوار صنعه لهم السامري.
ثم حكى القرآن ما كان من موسى عند ما وصل إلى طور سيناء لمناجاة ربه فقال: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أى: وحين حضر موسى لموقتنا الذي وقتناه له وحددناه، وكلمه ربه، أى: خاطيه من غير واسطة ملك قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أى: قال موسى حين كلمه ربه وسمع منه: رب أرنى ذاتك الجليلة. والمراد مكنى من رؤيتك. أو تجل لي أنظر إليك وأراك.
وأَرِنِي فعل أمر مبنى على حذف الياء. وياء المتكلم مفعول، والمفعول الثاني محذوف أى: ذاتك أو نفسك ولم يصرح به لأنه معلوم، وزيادة في التأدب مع الخالق- عز وجل-.
وجملة قالَ لَنْ تَرانِي مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنه قيل: فماذا قال الله- تعالى- حين قال موسى ذلك، فكان الجواب قالَ لَنْ تَرانِي أى: لن تطيق رؤيتي، وأنت في هذه النشأة وعلى الحالة التي أنت عليها في هذه الدنيا فنفى الرؤية منصب على الحالة الدنيوية، أما في الآخرة فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن المؤمنين يرون ربهم في روضات الجنات.
ثم قال- تعالى- وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي أى: لن تطيق رؤيتي يا موسى وأنت في هذه الحياة الدنيا، ولكن انظر إلى الجبل الذي هو أقوى منك، فإن استقر مكانه أى ثبت مكانه حين أتجلى له ولم يتفتت من هذا التجلي، فسوف تراني أى تثبت لرؤيتى إذا تجليت لك وإلا فلا طاقة لك برؤيتى.
وفي هذا الاستدراك وَلكِنِ انْظُرْ ... إلخ، تسلية لموسى- عليه السلام- وتلطف معه في الخطاب، وتكريم له، وتعظيم لأمر الرؤية، وأنه لا يقوى عليها إلا من قواه الله بمعونته.
ثم بين- سبحانه- ما حدث للجبل عند التجلي فقال: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا أى: فحين ظهر نوره- سبحانه- للجبل على الوجه اللائق بجلاله جَعَلَهُ دَكًّا أى مدقوقا مفتتا، فنبه- سبحانه- بذلك على أن الجبل مع شدته وصلابته مادام لم يستقر عند هذا التجلي، فالآدمى مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر. والداك والدق بمعنى، وهو تفتيت الشيء وسحقه وفعله من باب رد.
قال الآلوسى: وهذا كما لا يخفى من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم وهو أسلم وأحكم، أو التأويل بما يليق بجلال ذاته- تعالى-.
وقوله وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً أى: سقط من هول ما رأى من النور الذي حصل به التجلي مغشيا عليه، كمن أخذته الصاعقة.